للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(إنها أحياء شديد صغرها، مختلط أمرها، وستظل على إنبهامها، وإذن فلأضعها في باب الأشتات الغامضة). ولم تجد تلك الأحياء من يدفع عنها، ويتحدث بالحسنى عنها، غير ايرنبرج ذلك الألماني الشهير، ذو الوجه البض المليء، فانه في الوقت الذي لم يكن فيه يقطع المحيطات أو يمنح الأوسمة والمكافآت، كان يشتبك في مجادلات عقيمة عن هذه الحيوانات: ألها أمعاء كسائر الحيوان؟ أهي حيوان كامل الأعضاء، أم هي بعض صغير من كل كبير؟ أم هي ليست بحيوان قط، بل نبات؟

ظل (بستور) يكد في الدراسة ويكب على القراءة، وبدأت تظهر عليه وهو في كلية (أربو) سمات، وتتراءى في خلقه صفات، بعضها حسن وبعضها قبيح، ولكنها جميعاً خلقت منه شخصا التقت فيه المتناقضات بقدر لم تلتق على مثله في سواه. فقد كان أصغر التلاميذ في المدرسة، ومع ذلك أراد أن ينصب نفسه عليهم قيماً. كانت به رغبة شديدة في تعليم غيره من الأولاد، وعلى الأخص في حكمهم والسيطرة عليهم. ونال أمنيته فنصبوه قيماً. وقبل بلوغه العشرين ارتقى إلى منصب أشبه بمساعد في كلية بيزانسون وأجهد نفسه في العمل إجهاداً مريعاً. وأراد كل من حوله على أن يعملوا بمقدار ما يعمل. وكتب إلى أختيه المسكنتين كتباً شديدة اللهجة، بارعة الأسلوب، يحضهما فيها على العمل، وقد كانتا - طيب الله ثراهما - تبذلان كل ما في وسعهما من مجهود.

كتب إليهما يقول: (أختي العزيزتين، إن العزيمة شيء عظيم، لأن العزيمة يتبعها العمل، والعمل يتبعه النجاح دائماً، إلا في القليل النادر. وهذه الأمور الثلاثة - الإرادة، والعمل، والنجاح - تملأ الوجود الإنساني. فالعزيمة العزيمة، والعمل العمل، فسيفتحان لكما أبواب السعادة والمجد. إن الطريق الطويل المجهد في آخره خير الجزاء عما صب الإنسان على ترابه من عرق، وأحفى فيه من قدم).

تلك عظاته الأولى في شبابه، وهي من عظاته الأخيرة عند ما بلغ السبعين - عظات بسيطة، ولكنها كانت تخرج من قلبه.

وبعث به أباه إلى باريس، إلى مدرسة النرمال، فاعتزم أن يقوم هناك بأعمال كبيرة، ولكنه أحس حنيناً أليماً إلى وطنه، وإلى روائح المدبغة التي خلف في بلده، فعاد إليها تاركاً في باريس آماله وأحلامه. . . ولكنه لم يغيب عنها طويلاً، فإنه رجع إلى باريس بعد عام، إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>