للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نفس المدرسة، وفي هذه المرة أطاق الإقامة فيها بعيدا عن بلده وأهله. وذات مرة خرج من محاضرة دوماس مغتمر الحس، فائض النفس، مغروق العين، يتمتم لنفسه، (ما أجل الكيمياء علماً! ودوماس، ما أمجده وأوفر حظه من محبة الناس!). عرف (بستور) حينئذ أنه سيكون كيميائياً كذلك عظيماً. ونظر إلى الحي اللاتيني بشوارعه القاتمة، وهوائه الغبيش، وإلى عيشة الخلاعة والتخليط التي يعيشها الناس فيها، فقال لا يرفع هذا الحي من وهدته إلا الكيمياء. كان (بستور) قد ترك الرسم والتصوير، ولكنه حفظ في قلبه روح الفنان الشاعر.

ولم يلبث أن بدأ أبحاثه، بين قوارير من كل رائحة كريهة، وأنابيب من كل سائل ذي لون بهيج، فاشتغل بها وتعثر فيها. وكان يحاضر صديقه الطبيب شبيوس ساعات عن بلورات حامض الدردي، ولم يكن إلا طالب فلسفة، فكان المسكين لا يجد مندوحه عن الإنصات كل تلك الساعات. وكان (بستور) يقول له: (إن من المحزن ألا تكون كيميائياً مثلي). كان يريد كل الناس على أن يكونوا كيميائيين، كما أراد كل الأطباء بعد أربعين عاماً أن ينقلبوا بحاثاً للمكروب.

وبينا كان يكب بأنفه الأفطس، وجبينه العريض، على كومات البلورات يمتحنها، كان رجلان، أحدهما فرنسي، والآخر ألماني، قد أخذ على انفراد يوجهان همهما إلى تلك الحيوانات الصغيرة الحية التي تدعى بالمكروبات، يعتقدان أنها حيوانات على صغرها خطيرة نافعة كالخيول والأفيال. أما الأول فكان اسمه كبنارد دي لا تور وكان رجلا متواضعاً متخاشعاً، إلا أنه كان يعرف كيف يكشف من الحقائق عن إبكارها. فذات يوم كان يدور خلال الجعة المختمرة في أحواضها، فأخرج من حوض قطرتين يعلوهما الرغوة، ونظر إليهما بمجهره فوجد أن حبات الخميرة قد نتأت على جوانبها نتواءت كما تتنبت البذور. فقال لنفسه: (إذن هذه الخمائر حية، لأنها تتكاثر كغيرها من الخلائق). وتابع أبحاثه فعرف أن الشعير لا يستحيل إلى (البيرة) إلا حيثما وجدت فيه هذه الخمائر الحية المتزايدة. (إذن فهذه الخمائر، وهي تمارس العيش، تخلق من هذا الشعير كحولاً). ونشر مقالاً صغيراً عما وجد، ولكن الدنيا رفضت أن تستمع إلى هذا الكشف المجيد. وكان (كنيارد) حيا، ولم يكن دعاء لنفسه، ولم تكن له صلة بالصحافة. ٍ

<<  <  ج:
ص:  >  >>