وفي نفس العام نشر دكتور ألماني يدعى إشفان مقالاً قصيراً، في جمله طول، وفيها إبهام، يقص على الناس فيه خبراً عجيباً، خال أنه سيقيمهم ويقعدهم، فإذا بهم يستمعون له بصدور ضيقة وأمزجة فاترة. قال:(أغل اللحم إغلاء طيباً، وضعه في قارورة نظيفة، ثم أدخل إلى القارورة هواء بعد إمراره في أنبوبة حمراء بما حولها من النار، يبق اللحم صالحاً عدة أشهر. ولكنك إذا نزعت القارورة سدادها، فأدخلت إليها الهواء العادي بما فيه من جراثيم، فلن يلبث اللحم أن تخبث ريحه، ويتنغش بأحياء أصغر ألف مرة من رأس الدبوس، هي التي تعيث فيه بالفساد).
لو أن (لوفن هوك) سمع بهذا لفتح عينيه وسعها لما سمع، ولو أن (اسبلنزاني) جاءه هذا الخبر وهو يصلي بالناس في الكنيسة لفض جمعهم وهرع إلى معمله. أما أوربا فلم تحرك ساكناً. وقرأت الخبر في الصحف فكان كبعض الأخبار. وكان (بستور) في تلك الساعة على وشك أن يكتشف أول كشف خطير كشفه في الكيمياء.
كشف بستور كشفه الخطير الأول وهو ابن ست وعشرين فبعد نظرات قريبة عديدة إلى بلورات صغيرة دقيقة، خرج على أن حامض الدردي يوجد على صور أربع لا على صورتين، وخرج على أن المواد الكيمياوية منها مركبات تتساوى جزيئاتها في كل شيء، في عدد ذراتها، وفي الحال التي تترابط عليها هذه الذرات يكاد المركبان يكونان مركبا واحداً، لولا اختلاف بسيط في وضع ذراتهما، وخرج على هذين الوضعين يختلفان كاختلاف الشيء وصورته في المرآة.
تمطى (بستور) فاستقام ما انحنى من ظهره الوجيع، واستبان قدر الكشف الذي أتاه، فخرج مسرعاً من معمله الصغير المظلم القذر، فبلغ البهو الكبير، فالتقى بشاب فيزيائي لم يكنيعرفه إلا لماماً، فإذا به يطوقه بذراعيه، ويقوده خارج المعهد إلى حدائق لكسمبرج وتحت ظلال أشجارها الوريفة، أخذ يصب على صاحبنا الكلم صباً، ويغمره بالشرح والتفسير غمراً. لم يكن له مندوحة من هذا. ملأه الحديث فلم يستطيع كظمه. لابد أن يفيض به إلى أحد. لا بد أن يخبر الدنيا بالذي وجد.
لم يمض شهر حتى أثنى عليه الأشياخ من الكيميائيين، وحتى اصطحبه علماء أعمارهم ثلاثة أضعاف عمره. وتعين أستاذاً بجامعة استراسبورج وفي فترات ما بين أبحاثه وقر