الرومان؛ ومن الغريب أنك تجدهم في مدة وجيزة قد صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وبركوبها، وقد طافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم، واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير، مهروا في صناعة السفائن، وأنشئوا لذلك دورا عظيمة، وصار لهم أيضا في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ، متقنة الصنع كثيرة العدد تفننوا في عملها، وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها، وضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية، كانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح، اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن، واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات، ولقد وصل الأسطول الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك كان أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة ما لم تصله في أي عصر آخر، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تعداد أمجاد العرب والمسلمين في الملاحة، ولسنا أيضا في موقف نتمكن معه من سرد مواقع المسلمين البحرية وبراعتهم في ذلك. فهذا كله لا يزال محاطا بسحب الإبهام، ولم ينفض عنه بعد غبار الإهمال؛ ومما يؤلمنا أننا إلى الآن لم نسمع عن جماعات علمية أو منقبين أقاموا أنفسهم لهذه البحوث وصرفوا أوقاتهم في تهيئتها، وعلى كل حال يمكننا القول من مطالعة كتب التاريخ التي بين أيدينا أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصلها غيرهم من قبلهم. إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزاة المحيطات، وكان لذلك تأثيرا كبير على فتوحاتهم، فلقد تمكنوا بأساطيلهم من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وأقريطش، وكذلك فتحوا بها كثيرا من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مما يلي أوروبا إلى بريطانيا في الشمال. وقد بقي العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية، وإلى أن قامت عليهم أيضا المغول والتتار، وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل من كل جانب، فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم، واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كما كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم، وكاد يستحيل كل هذا إلى موت أكيد. . .
قلنا أن الأمة العربية وصلت إلى درجة في البحرية لم يصلها غيرها من الأمم التي سبقتهم،