أخضعوا البحار لأساطيلهم، ولم يعبأوا بمدها وجزرها، وساحوا بسفنهم المحيطين الهندي والهادي، وأصبح لهم دراية وخبرة في الملاحة، وإن أمة كان هذا شأنها، وكانت هذه درجتها لمن الطبيعي أن يظهر فيها من مهر في الملاحة وبرع في البحرية واطلع على أسرارهما ووقف على دقائقهما، ومن الطبيعي أيضا أن يظهر فيها من ألف المؤلفات العديدة، ووضع الكتب الكثيرة في علم البحار، ولا عجب إذن إذا كانت هذه المؤلفات وتلك الكتب منهلا نهل منه كثير من ملاحي الغرب، ولا عجب إذن إذا استعانوا بها في تسيير سفائنهم ورسم الخرائط والمصورات البحرية، وفي معرفة المواقع والمرافئ والخلجان. ومن هؤلاء الذين نبغوا في الملاحة ووقفوا على دخائلها وعرفوا أسرارها ابن ماجد الذي ظهر في القرن التاسع للهجرة؛ وهو شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد بن معلق السعدي بن أبي الركائب النجدي، كان يلقب نفسه بشاعر القبلتين، وقد حج إلى الحرمين الشريفين ويعرف بسليل الأسود، وكان أبوه ومن قبله جده من الذين اشتهروا في الملاحة، حتى أن جده كتب رسالة في الملاحة في البحر الأحمر خدمة للسفن التي تقل الحجاج، ولقد زاد ابن ماجد على هذه الرسالة نتيجة اختباراته الشخصية. من هنا يظهر أن ابن ماجد منحدر من عائلة اشتهرت بالشئون البحرية والاعتناء بالملاحة، فلا غرابة إذا نبغ هو في ذلك، ولا عجب أيضا إذا فاق أجداده في هذا كله. وقد اعترف بعض المنصفين من علماء الإفرنج بفضل العرب (وخصوصا ابن ماجد) على الملاحة البرتغالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد. وقد قال الأستاذ فران الفرنسي إن الفضل في تفوق الملاحة البرتغالية يعود إلى العرب والأستاذ فران هذا هو الذي ترجم كثيرا من مؤلفات ابن ماجد وقد علق عليها، وقد صدرها بعنوان (مؤلفات ابن ماجد الملقب بأسد البحر الهائج ربان فاسكو دي غاما الذي طاف حول الأرض.) وثبت لبعض علماء أوربا أن فاسكو دي غاما استعان بابن ماجد في تسيير أسطوله حول الأرض من مالندى على ساحل أفريقيا الشرقية إلى قاليقوت في الهند. ووضع ابن ماجد مؤلفات عديدة ورسائل كثيرو في علم البحار وكيفية تسيير السفن، هي من الأهمية العلمية والتاريخية بمكان عظيم. ومن مؤلفاته القيمة المعروفة كتاب اقتناه المجمع العلمي العربي بدمشق وهو موجود الآن في دار الكتب العربية الظاهرية. واسم هذا الكتاب (كتاب الفوائد في معرفة علم البحر والقواعد)، وقد