وإنما العاطفة الشعرية عندي إحساس قوي بحياة غربية، وشعور واضح بعالم جديد جرده المبين من نفسه لنفسه، ثم قوم أشياءه وأحداثه وأشخاصه بالميزان الذي له خاصة، وخلع على ما فيه قيما حديثه، قد تتفق وقد لا تتفق مع القيم المألوفة التي تواضع الناس عليها في حياتهم الدراجة! ولئن تشابهت أشياؤه بالأشياء، وتعارفت الأحياء بالأحياء، فلقد يشملها جميعا قانون النفس العام، وتصطبغ كلها بالشعور والإنساني، تتجاذب تلك الأشياء والأحداث والأشخاص وتتنادى وتطرد لغاية عملها في دقة ونظام؛ والأولى أن نقول إن الأشياء والأحداث والأشخاص تؤلف في العالم الجديد لحنا موسيقيا منسجما لا ضجة فيه ولا نشوز، يتملاه الشاعر ويستوحيه ويخضع له! دنيا رحبة هادئة جميلة هي ملك المبين لأنها من خلقه! ولعل هذا العالم الشعري يماثل من وجوه عديدة عالم الرؤى والأحلام
التي تضطرب في خيال المرء، وتطيف في رأسه الغافي. . .
ولقد أحب أن أشير هنا، وقد انحدرت (الأحلام) مع الحديث، إلى أن جماعة الإبتداعين (الرومانتك) وأدباء العصر الحاضر قد خلطوا بين الشعر والرؤيا ووحدوا معناها! نعم، قد تكون الرؤيا والأحلام صورا شعرية خالصة، ولكنها صورة بارزة مؤلفة من عمل المصادفة والإتقان؛ وما دامت كذلك فهي صور شعرية بالمصادفة والاتفاق
إن عالم الرؤى عالم غريب قد ملأ ساحته الشعور المبهم، وانفرط فيه عقد المنطق المحترم، وهب عليه إدراك غير إدراكنا، وتفكير غير تفكيرنا! فهو عالم مغلق تبرز الأشياء فيه على غير حقيقتها ولونها المعهود، وهي إنما بأهوائنا المكظومة ومثلنا المرجوة ورغائبنا الكامنة. والعاطفة الشعرية حالة نفسية كهذه الحال الطليقة تظهر على غير انتظام، وتعمل في غير استقرار، وتضمحل من غير إنذار! لقد تقوم في أنفسنا بالمصادفة وتخفتي عن أعيننا بالمصادفة! وعجيب - يا سادتي - أثر المصادفة العابثة في ظهورها وفنائها! (تصفيق)
- ٢ -
يكر الزمان مسرعا ولا يؤوب، وتتجدد الحياة مشرفة ولا تتشابه، وتزول الصور ماضية بدون أثر! والله القادر الحكيم إنما تفرد بالطي والنشر، والمحو والإبداع، ثم أودع في الحياة معنى الموت، وفي الجذوة قوة الركود، وفي الخلق سر الأعجاز!! ولكن الشاعر المبين لن