يرضى عن اللحظة الحية التي تطوي إلا إذ، سجلها على القرطاس، وأمد في عمرها، وأثبتها على الدهر، كأنما يعارض انحدار الأشياء إلى صندوق العدم، أو يغالب عبث الليالي وتطور الوجود، فهو يقف بالذاهب الآفل وقفة طويلة ممنعة فيقيد خواطره، ويعلن أحاسيسه، ويحي حبه، ثم ينزع من الحياة قطعا يقذفها في إطار خالد جميل إلى العصور التي تليه، والأجيال التي تضطرب بعده على الأرض! كذلك استطاع أن يستمتع بالعاطفة الشعرية الطليقة وأن يستحضرها في نفسه كلما أراد كما تستحضر الرؤى بالتنويم؛ والفنون كلها تقلب العرض الزائل إلى حال دائم، والعمل الفني إنما هو الآلة الحسية لهذا التوليد العجيب والخلق الموفق؛ فالموسيقى والنحت والأدب والتصوير طرائق مختلفة للتمثيل والتعبير اقتضتها كثرة الحواس الظاهرة، واشتباك النفس الباطنة، وغموض المدينة الحاضرة. . . التمس الشاعر طائفة من السبل الملتوية لاستحضار العاطفة الشعرية، ورياضتها على الفن. ولعل أقدم السبل المشروعة، وأعمقها أثرا، وأشدها تركيبا هي اللغة! ولكن اللغة بطبيعتها المادية وسلطانها الواهي واستخدامها العملي أجهدت الشاعر أيما إجهاد، وهو الذي يقوم ويؤلف منها الجرس!
أرجو أن أظفر - أيها السادة - يعرض ما يكابد الشاعر من آلام، ويبذل من جهود، ويغالب من مصاعب
إن اللغة كما ذكرت أداة قديمة يخلص الناس إلى حاجات العيش ومطالب الجسد، فهي على هذا أداة سمجة خلقتها المصلحة، وشوهتها الظروف، وأخضعتها الشهوات! فقيم الكلمات، ومدلول الألفاظ، وقواعد التركيب، وفن الكتابة، ومخارج النطق إنما هي ألهية من الألاهي الطريفة نبعث بها على ما تقتضيه المآرب وترتضيه الأهواء. ولقد نجل مقررات المجمع الأدبي، ونقدر عمل الطباعة والصحافة في تحديد معنى اللفظ وكف شرة الفرد، ولكن خصائص اللغة من حيث قدرتها على إبداع الجرس الموسيقي وتشقق المعني الواحد فيها عن كثير من المعاني المندرجة لم تجد - وا أسفاه - من يرد عنها عادية النزوات وعرف الأوضاع؛ فقد ننطق بالحرف وترسل الكلمة كما تقوى حناجرنا، وتنفرج شفاهنا، وتتسع ثقافتنا، وتزخر نفوسنا فنحرف الكلم عن موضعه، وندخل الفوضى على المفهوم، وننشر الشك في قيمة اللغة والحق أن اللغة لو أنها لم تصلح لغايات العيش، ولم تشتمل على معنى