للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السعادة لما كانت تكون وسيلة من وسائل الشعر والفن، ومطلبا من مطالب الدقة والتعبير

هكذا، يا سادتي، شاء الحظ العاثر المشؤوم أن يستخدم الشاعر أداة حسية عملية ليحقق بها فنا أبي إلا أن يثور على المعاش، ويشرف على العمل، ويسمو على المادة. .!!

أما الموسيقى السعيد - وا لهفي على حظه - فقد يشرع فيما اختص له توفير عليه، ووسيلته جاهزة سامية مستقلة، لا يشركه فيها أحد من الناس، ولا تتدنى إلى ما لم تخلق له، وهو إنما يعمد إلى مادة قد صهرتها العصور، وهيأتها الطبيعية، وحددتها الغاية! لشد ما يشبه الموسيقى الصناع نحلة ولودا جاءت لتفرخ فوجدت الخلية قائمة على أحسن ما تقوم البيوت، مقسمة على أدق ما تقسم الغرف، فولدت مرتاحة هانئة ثم اهتمت للعسل وحده تجمعه من هنا ومن هناك! كذلك رجل الألحان يؤلف فنه من غير جهد، ويسلك سبيله بهجاً طروباً كأنما الملحن قد انسجم وبرز واكتمل قبل أن تمسه يد الموسيقى الفنان!!

ذلك بأننا نعيش بالسمع في عالم الأصوات؛ ونحيا بالأذن حين تعمى العين ويعيا اللسان؛ وبالأذن تدرك بطبيعتها أن الأصوات المتعالية إنما تتألف من وحدات بسيطة بالغة البساطة، صغيرة بالغة الصغر، حتى كأنها لا تقاس بشيء أو تلمح لوحدها، وهذه الوحدات قد تنسجم لمسافات محدودة، وتطرد بنسب معينة، فتكون الصوت الموسيقى، وقد تضطرب بغير نظام، وتسير على غير منهاج، فتكون الضجة الراجفة. فالأذن تعلم بالغريزة مكان الوحدة من الجرس، وتتذوق بالفطرة نور الجمال في الهمس، وتدرك أن الفرق بين النغم والضجة كالفرق بين النقاوة والكدورة، أو بين النظام والفوضى، ثم جاء العلم الطبيعي فأتم إدراك الغريزة وفطنة الأذن، وهو العلم القديم الدقيق، فقاس النسب، واخترع الآلات وإبداع من الألحان ما لا تستطيعه دنيا الطبيعة بذاتها. . .

وللموسيقى عمل السحر في النفس، تخلق جوا خاصا بها لست أدري ما طبيعته، وإنما أعلم أنه جو هادئ يتخدر فيه الشعور، وتطير العاطفة، ويحلو التخيل، وتبرز الأحلام! ولو أن لحنا شجيا انبعث خافتا من كمان في هذه القاعة الرحبة التي يهزها صوتي المضطرب المتعاظم لرأيتكم فجاءة تميلون الرؤوس وترهفون الآذان إلى مصدر اللحن، تتحسسونه وتتذوقونه، وتمدونه في أنفسكم وأنتم لا تشعرون! أفلا فطنتم إلى الأشعة القوية التي سطعت عليكم من شعاع لطيف، وإلى الدنيا الحالة التي طغت عليكم إثر جرس خفيف؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>