ولقد يعطس شخص أو يقع كرسي أو يفتح باب فتستيقظ أنفسكم الحالمة وكأنما صار لها ما يصير للزجاج إذا كسر، أو الحبل إذا تصرم
تلكم الألحان الهادئة، والآذان الواعية، تعين الموسيقى على إحياء النفوس من غير تعب؛ أما لغة الشاعر فكما علمتم ألفاظ جامدة مبهمة، وتخاطب الأذان والنفس على السواء، وتدخل إليهما مزيجا مضطربا من الأصوات والصور، وتثير فيهما ألوانا متداخلة من العواطف والميول. وهنا موضع الشذوذ، فلست أعرف أثرا متداولا أفرط في الغموض والاشتباك كاللغة، ولقد تقول كلاما صحيحا يقبله العقل ولكنه لا يهز الأذن ولا يطرب القلب، أو تقول كلاما منسجما جميلا ولكنه خلو من التفكير والمعاني! وليس أدل على اشتباك اللغة من نشأة هذه العلوم المختلفة التي تتظاهر كلها على شرحها وتفسيرها، فثم علم النقد والأدب والبلاغة والمنطق والاشتقاق والنحو تشترك جميعها في الكشف عما يحجب الألفاظ من الإبهام والتعقيد. ولن يستطيع المبين أن يتجاهل هذه العلوم أو يثور على سلطانها أو يكتفي بالتوقيع على الأذن دون النفوذ إلى النفس!
ولكن الكلام كلامان: منثور ومنظوم، والنثر والنظم مظهران قويان للغة، وبينهما حدود على وضوحها متداخلة متشابكة. . . (تصفيق شديد)
- ٣ -
أذكر أني كنت أحاضر مرة في هذا المعنى طائفة من الأجانب، فلما بلغت هذا الموضع من الحديث إذا أحد المستمعين يتلو علي رسالة طريفة بعث بها الكاتب (راكان) إلى صديقه (شايلان) يقول فيها: (. . . وأنت تستطيع أن تنعت نثري بما شئت من الظرف والكياسة والبساطة، فلقد اعتزمت على ألا أحيد عن نصائح أستاذي الكبير (مالرب) ولا التزم ما يلتزمه غيري من الوزن والإيقاع والجرس، وحسبي الوضوح من تاج أزين به نسيج ألفاظي ولفتات ذهني! كان مالرب الذكي يشبه النثر بالمشي، ويقرن الشعر بالرقص، ويقول إن ما نفعله مرغمين يستحق التسامح والاعتدال، ثم لا بد فيه من التجاوز والإهمال، وأما ما نعمله باختيارنا ورغبتنا فمن السخرية أن يكون المرء فيه ضعيفا أو وسطا، فالأعرج مضطر إلى المشي اضطرارا، ولكنه متحذلق سخيف لو راح يرقص على الفالس والخطوات الخمس)