إن تشبيه النثر بالمشي والشعر بالرقص تشبيه خصب جميل لا أعرف أصح منه ولا أدق ولا أشمل! فالمشي كالنثر يقصد به صاحبه أن ينال غاية مائلة ويحقق فكرة مرسومة، فهو يرجو شيئا، ومن أجله يمشي، ولعله لم يدب برجليه ويضرب في الأرض إلا لأن الباعث قد تحرك فيه وألح عليه؛ وظروف المشي، أعني طبيعة الشيء وحالة البدن والأرض واشتداد الرغبة، هي التي تحدد سرعته وتعين وجهته؛ فالمشي على هذا واسطة قائمة تزول متى برز وجه الغاية، أو هو فعل متجدد سوف ينطوي بعد حين. أما الرقص فهو هو الواسطة والغاية، ليس يغني ولا يسير على غير هدى؛ ولئن قصد به فهو الرياضة على الفن الجميل، والشعور بالحياة السعيدة، والاستماع بالمثل الأعلى! على أن الرقص يستخدم نفس الأرجل والأعضاء ولأعصاب التي يستخدمها المشي، وكذلك الشعر أداته الكلمات والصور والمعاني التي يقوم بها النثر عند البيان
إنما يمتاز الشعر من النثر بأنه يتناول الألفاظ على نحو من التركيب والتوجيه يخالف ما يتناول منها النثر في أغلب الأحيان، فنحن نعجب بالكناية والمجاز في الشعر أشد العجب، بل نحن لا نعجب بالشعر إلا إذا كان كله أجله كناية ومجازا. أما القول بوحدة الشعر والنثر فهو قول لم يقره النقد الصحيح ولم يسغه الذوق والحديث، ولعل ما يجوز في أحدهما لا يجوز في الآخر على أوجز تعبير
والمشي كالنثر يسلك به صاحبه أخصر الطرق وأقومها وأقلها عوجا ومنعطفات ليصل إلى بغيته التي يرجوها دون تريث ولا تذبذبن ولكن الرقص بخلاف ذلك لا يحلو إلا إذا أكثر من الروحات والغدوات، وأفرط في اللف والدوران، وأمعن في الجيئة والذهوب؛ ولو سمح لنا الرياضيون لقلنا إن الخط المستقيم سبيل الماشي والناثر، والخط المنحرف سبيل الراقص والشاعر!
تلك السماء تسح مطرا - هكذا يعبر الناثر في نزول المطر الشديد، وهكذا علمنا منذ الطفولة على الكلام، أما الشاعر فلن يبين كما يبين الناثر ويتكلم الناس وإنما يكسو الحقيقة العارية، ويزين الصورة الواقعة، ويعرض الحس في إطار رائع يبهر البصر ويعجب البصيرة. وما ينبغي للشاعر الفنان أن يقول (تلك السماء تمطر تسح مطرا) حتى نحمل المظلة ونتقي البلل لأن (تلك السماء تسح مطرا) قاعدة الكاتب الناثر، ينشئ فيوجز