يمشي الرجل متثاقلا أو مسرعا إلى غايته، فما يكاد يبلغها حتى يقف قائما لا يسعى كأنما التثاقل والإسراع كانا من أثر الحاجة والإلحاح، فالرجل يكف عن المشي لأن علة المشي قد زالت ولأن غاية السعي قد برزت! وهذا الأعرج الضعيف الذي ذكره مالرب في حديثه إنما يجلس مستويا على مقعده كما يجلس الراكض العاني بعد طوال اللهث والتعب. كذلك لغة النثر تضطرب وتموت في الذهن متى عرف معناها واستابنت غايتها؛ فهذه محاضرتي غنما ألقيها على مسامعكم لتفهموا عني ما أحب وتعتقدوا بالذي أعتقد، فأنا أقول الآن نثرا، ومتى انتهيت من الكلام وارفض جمعكم الحافل طارت الألفاظ سريعا من ذاكرتكم، وبقي الأثر منطبعا في أذهانكم كأنما أقول من الكلام المنثور لأدفنه بيدي وأذيبه متعمدا، ولقد يتفاعل هذا الأثر الحديث مع غيره من الآثار السابقة كما تتفاعل فيما بينها عناصر الكيمياء؛ ومهما تكن نتيجة التفاعل الفكري فالألفاظ التي أقذفها إنما أقذفها لتتلاشى كما يتلاشى البخار في الفضاء. وكمال محاضرتي أن تفهموا معناها لا أن تحفظوا مبناها، لأن المعنى متى أشرق في الذهن ووضح في الخيال وجد اللفظ سجنا يحد من سعته ويضعف من شأنه؛ فالفهم والدقة والوضوح غاية النثر التي لا غاية له غيرها وأعني أن الكلام المنثور يحيا حياة قصيرة ثم يموت. . .
وما ينبغي أن يحيا النثر إلا حياة قصيرة ثم يموت بعد أن يبلغ رسالته تامة صحيحة واضحة! ولكن الشعر خالد تتجدد ألفاظه في القراءة، وتحلو معانيه عند الإعادة؛ وقيمة الشعر في شكله الظاهر وكلماته المزجاة، قد انتظمت كما ينتظم العقد وانسجمت كما تنسجم الموسيقى؛ فرؤوسنا تحفظ اللفظ تتلوه مترنمة هازجة وتعيده على نحو ما سمعته في الرصف والاتساق. ثم لا تبالي إن ثملت أو حزنت أو ثارت ما دام في إنشادها رنة الفرح أو أنة الألم أو نزوة الهوى. ولقد جهل قوم كثيرون طبيعة الشعر، وهاموا في وضع الحدود وتباين المعالم فما نجحوا ولا استراحوا؛ وعندي أن الشعر لفظ جميل تستمع به الأفهام الراجحة، وتتناشده الشفاه اللاغية، وتهضمه النفوس الواعية. ثم تخرجه كما كان لفظا جميلا تبقي جدته على الزمان كأنما يستعلن في (ميكانيكية) متشابهة قوية رائعة. . .
هاتان نقطتان ثابتتان تقابل إحداهما الأخرى على مسافة صغيرة، يتأرجح بينهما رقاص