مضطرب كرقاص الساعة، قد تدلى وتذبذب في جيئة وذهوب. أما النقطتان الثابتتان المتقابلتان فهما اللفظ والمعنى، أو الشكل والفكرة، أو الجرس والعاطفة؛ وأما الرقاص المضطرب فهو النفس المتصفحة الممعنة، تقرأ القصيدة المنظومة أول ما تقرأ، فتجوز اللفظ لتفهم المعنى، وتنسى الشكل لتذكر الفكرة، ثم تخلص من الجرس إلى العاطفة تستطلع مطاويها كما هو الحال في التخاطب والكلام، وهنا في هذه السطور يتساوى النثر والشعر، ولكنه طور خاطف لا يلبث أن يزول. ذلك أن النفس القارئة تكر راجعة بعد هذا إلى اللفظ تعيده وتتملاه. ثم لا ترى خيرا منه صندوقا يضم أشتات المعنى، ويحفظ دقائق الفكرة، ويعلن جمال العاطفة! تعود إلى اللفظ بعد ما عرفت المعنى كما يعود الرقاص من جولته إلى حيث ابتدأ في الجولان! وهكذا تضطرب النفس القارئة بين اللفظ والمعنى كما يضطرب الرقاص بين النقطتين الثابتتين المتقابلتين، وهذا الاضطراب بين الظاهر والباطن هو الذي أسميناه (بالعاطفة الشعرية) في صدر المحاضرة، وهو غاية الشعر التي لا غاية له غيرها، ولعل الشاعر الموهوب من يختار اللفظة الصالحة لأحداث الاضطراب النفسي، وإحياء العاطفة الشعرية
فالشعر كما أراه يفترق عن النثر ولا يلتبس به، وهو أشد ما يكون بعدا وتساميا عن القصة والرواية اللتين تصفان حوادث الواقع وتعرضان مشاهدة الحياة، وهذا التباين نلمحه واضحا في الوضع الطبيعي الذي يأخذه قارئ الرواية وقارئ الشعر، فالأول ينساق مع تيار الحوادث، فيفخر أو يغضب أو يفرح أو يحزن، وقد وضع جبهته بين كفيه، وركب رأسه فيما يقرأ، وتعجل التلاوة ليأمن الذي يلي ويطمئن للخاتمة، فجسده غائب وحواسه فارغة، وعقله منغمس تائه لا يشعر بما حوله ولا يدرك إلا ما هو فيه، ولو انصفنا لقلنا إن قواه الجسمانية قد انحلت، وأن قواه النفسانية قد انقلبت عقلا يمعن ويتلو ويتأثر، أما قارئ الشعر فلا تتقسم طبيعته ولا تتوزع قواه، وإنما يذهب في القراءة بجوارحه كلها ما دق منها وما ظهر، ما رق وما غلظ، ما شرف وما سفل؛ فالقصيدة تهيج نفسه وعصبه، وتوقظ ملكاته الحسية والفكرية. ثم تريده على أن يتصور الأشياء ويتمثل الحقيقة كما هي غير محرفة ولا ملتوية ولا مضطربة!!
ولكني على هذا ألمح بين الشعر والنثر درجات من الصور خافة متوسطة تربط قطبين