متقابلين في الأدب، وتصل مظهرين قويين للغة، ثم تنشئ بينهما حدودا على وضوحها متداخلة متشابكة. . .
- ٤ -
أينظم الشاعر مضطرا أم ينظم مختارا؟
هذا آخر ما أفكر فيه وأتحدث عنه، والغريب أن الباحثين لم ينتهوا بعد من تقرير شيء في هذا. فالجدال عنيف، والتعقيد ظاهر، والعمل شاق. وقد يئست طائفة من الشعراء وتبرمت بالقريض، ثم قالت: إن مهنتنا تضني النفس وتأكل القوى، وصاحبنا مالرب يزعم مخلصا أن الشاعر ينهي مقطوعته الفنية وجب أن يهدأ مرتاحا بعد ذلك عشر سنوات!!
ينظم الشاعر. . . ولكنكم تدرون متى ينظم الشاعر، وما حاجتي إلى شيء تعرفونه حق المعرفة. ينظم الشاعر حين يفيض قلبه ويمتلئ صدره، فينطلق لسانه ويقول شعرا، ولكم وددت أن يكون هذا الرأي الفطير صحيحا سديدا، إذن لاحتمل الشاعر تكاليف الحياة، ورضى المبين بميسور الشقاء! ولكن القريحة الفنية قد تتبلد وتظلم حتى لا تعي أمرا ولا تنطق حرفا، فمن يقول بهذا الرأي الغرير يخضع الشاعر لسلطان القدر العابث، ويغدو الإنتاج الشعري حينئذ مرهونا بالمصادفة المواتية واللمحة المشرقة، أو متصلا بالوحي العالي والموهبة الخارقة. ولست أعلم افتئاتا على حرية الشاعر وامتهانا لكرامته كهذا الرأي القائل العاثر يجعله منفعلا لا فاعلا، وحاكيا أمينا يقول ما يلقى إليه من الكلام، وهو، يحاسب كما يحاسب مدير الصحيفة المسئول، فما كان خيرا قالوا هذا من عند الله، وما كان شرا قالوا هذا من عنده! والعجيب أن الكثرة الغالبة من الشعراء تؤمن بهذا الرأي وتناضل عنه، أو هي على الأقل لا تجد الفضاضة الذليلة بأن ترضى قانعة بمشيئة المصادفة والوحي
توافرت الأدلة وأثبتت التجربة أن الشعر الذي يعترف بجودته وبلوغه المنزلة الرفيعة التي تملى القارئ أثر الوحي والإحساس النفسي، إنما هو الواقع من عمل الجهد الدائب، والإدارة الصابرة، والتفكير العميق. أفلا نحس بهذا المجهود الكبير يبذله الشاعر حين نقرأ قصيدة من قصائده الطويلة الجميلة؟ فنحن نخطئ كثيرا إن حسبنا أن الشعر وحدة لا تقبل التجزئة؛ وموهبة لا تقوى على المران، وأثرا لا يخضع للزمن