للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قال: (ولدت هناك؛ وقد كان أبي موظفا بمصلحة السكة الحديد. أرسل إلى السودان ليدرب المبتدئين هناك من عمال التلغراف، ولما عدنا أتممت دراستي إلى شهادة الكفاءة، وشق علي أن أسعى للوظيفة وسط أمواج الساعين وذل الوساطة، فتعلمت قيادة السيارات واشتريت هذه، وأنا بعيشي قانع ولله الشكر)

لم أجد بدا من تحيته تحية تجزئ شيئا من كرامته وحسن تقديره للحياة ولوطنيته. قلت: قف السيارة - وقد ظن أني أريد استئناف السير على قدمي لدقائق أخرى، فهم بفتح الباب قلت: كلا أمد يدك أني أصافحك، وأنت الآن في نظري خير مني، وأنت إذن سائق ورفيق

أشرفنا على المدينة، فسألت السائق هل يعرفها جيدا؟ قال (نعم) فاطمأن خاطري فنزلت وصورت مدخلها

رأيت أعلاما منشورة، وزينات مرفوعة، وبشرا يغمر الوجوه. فقلت: الحمد لله إنهم يعرفون لليوم حقه. والتفت إلى رفيقي خريج (كلية غوردون) وقلت: (ألا ترى مظاهر العيد؟) أجاب الرجل: (إنه اتفاق سعيد، فقد ازينت المنازل والطرقات لعودة الحجاج من أهل رشيد، وقد دعيت أمس ليركب سيارتي أحد أعيانها القادمين، ولكني وعدتك أن أوفيك بفندق وندسور. فاعتذرت مهما علا الأجر، وأنا اليوم أعد نفسي سعيدا) قلت: بل أنا يا بني، فقد وجدت فيك من يحتفل معي بهذا العيد على معرفة!) وقلت: لا يزال في الدنيا من يرخص المادة في سبيل الوفاء، وإذن ما تزال الدنيا بخير

رشيد بلد ظريف جذاب. إذا نظرت إلى التقاء النيل عنده بالبحر الأبيض المتوسط، ذكرت على التو كيف انسابت مدينة وادي النيل القديمة إلى أوربا، وعرفت كيف سارت تعاريج الأمواج الحلوة الهادئة بين الشاطئين الهادئين، فكانت أشبه بالسطور يحملها الأثير بفعل الاختراع - فنقلت في أقدم العصور التشريع المصري إلى (أثينا) فأضفت على تاريخها مفخرة التقنين وسن الشرائع

أمواج النيل الهادئة، بالإضافة إلى أمواج البحر الصاخبة الهائلة، كذلك الخلق الرصين المتين يثابر متئدا فيتغلب على صخب الجبروت، والهيولى الضخمة المخيفة لكتائب الغضب والغزو - وقد شهد وادي النيل مصارع أمم كبيرة فأفنى قواها أو مثلها ففنيت في شعبه

<<  <  ج:
ص:  >  >>