لبثوا يعانون آثار المحنة حتى وفاة الحاكم بأمر الله
ولقد كانت هذه المطاردة الصارمة للذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله؛ وكانت بلا ريب خطة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض، ونستطيع أن نقول إنها كانت انقلاباً جوهرياً في السياسة الفاطمية إزاء اليهود والنصارى. ذلك إن الدولة الفاطمية، كانت منذ قيامها بمصر تؤثر سياسة التسامح الديني، وتذهب في هذا التسامح إلى ابعد مدى، فتصطفي اليهود والنصارى، وتوليهم الثقة والنفوذ، وكان بين وزرائها كثير من اليهود أو النصارى مثل الوزير يعقوب بن كلس وزير المعز، ثم ولده العزيز، فقد كان يهودياً ثم اسلم، وكان اعظم وزراء الدولة الفاطمية؛ وعيسى بن نسطورس النصراني، ومنشا اليهودي، وزيرا العزيز بالله؛ وتولى الحكم ثلاثة من الوزراء النصارى في الفترة الأولى من عصر الحاكم ذاته، هم الرئيس فهد بن إبراهيم، وابن عبدون، وزرعة بن عيسى بن نسطورس،. وكان النصارى واليهود يتمتعون قبل عصر الحاكم بكثير من الحرية والتسامح، ويؤذن لهم ببناء الكنائس والأديار والبيع. ولم يشذ الحاكم عن هذه السياسة لأول عهده، وكان ذلك راجعاً إلى نفوذ الوزراء النصارى، وربما إلى نفوذ أمه النصرانية وأخته ست الملك، وقد كانت تؤثر سياسة أبيها العزيز في الرفق بالذميين؛ ولكن الحاكم انقلب فجأة إلى سياسة المطاردة الدينية، وأبدى في تطبيقها منتهى الغلو والتطرف، بيد إنا سنرى أن هذه السياسة ترجع أيضاً إلى بواعث لها خطرها وقيمتها.