لشد ما يشبه الفنان الإنسان الأول أو الطفل الناشئ! ينظر إلى الدنيا بعين رغيبة، ويشعر بنفس ظمآنة، ويفكر بعقل طلعة. ولكنه يمتاز منهما - إن صح له الامتياز - بأنه يجمع الأسباب وينظم المنثور، ويلمح التناسب، ويتذوق الجمال! ومهمته الكبرى أما هي على التحقيق الانحدار إلى النفس ينفض غبارها، ويكشف اتساقها، وينير زواياها، ثم يخرجها لغة تهز القلب وتفيد العقل
كذلك العالم في استقرائه يدرك المجهول، ويصل العلة بالمعلول، ثم يضع القاعدة ويعمم القانون، فلو خطا أحد أمامه خطوة أو خطوتين لقدّر القوة، وراز الشدّة، وقاس المسافة، ووزن الكتلة، وانتهى من هذا كله إلى تقييد الحركة وإعلان العمل العالم والفنان كلاهما ينظر إلى أبعد من أنفه، ويسبر غور الأشياء. لقد يشتركان في الذات، ويتداخلان في الموضوع، ثم يختلفان بعد هذا في الآلة والطريق. . .!!
أرأيت إلى الحياة في مضطربها كيف تبدلها اللمحة، وتنقلها الملاوة، وتصبغها العاطفة، وتخضعها الظروف؟ ذلك ما يبعث على خلودها وامتدادها وجدَّتها وجمالها، وذلك ما وكل إلى الفن بتصويره. فالحقيقة الفنية تتصل بالمزاج والزمن والموقف، وهذه كلها أبداً في تطور مستمر عجيب، أما الحقيقة العلمية فثابتة على الدهر والأشخاص، ولئن طرأ عليها تحوير أو هدم فإنما يكون لتقريبها من الصحة والدقة والشمول
الدنيا واحدة عند العالم من حيث الجوهر والنظام. ولكنها دنى كثيرة عند الفنان من حيث الشكل والإحساس
ما عجبت لأحد من أبناء الفن عجبي لهؤلاء الأدباء اللذين يزهون بأنفسهم فلا يكتبون إلا لها، ويعنون بعواطفهم فلا يتحدثون إلا عنها، وهم لو سئلوا ما بال الجمهور يقرأ آثاركم وينشد أشعاركم؟ لقالوا: إنه متطفل يحب أن يسمو بقدره إلى منازل الكتاب والشعراء، فيستشعر الذي يستشعرون، ويطوف حيث يطفون. فالجمهور - مهما دقت نظرته وسمت أهواؤه - طفل لدن ما برح في كل العصور والأقوام يلهو ويعبث!!
أدب هؤلاء الأثرين يغشاه في أغلب الأحيان غموض، وتطل عليه فوضى، ثم لا يصح معه مقياس من المقاييس الأدبية المعروفة، وكيف تستطيع أن تقدره وتحكم له أو عليه ما دمت