لا تفهمه ولا تتذوقه؟ إنما ينبغي للكتاب والشعراء أن يقطفوا من النفس والحياة ما يشترك في فهمه الناس جميعاً، أو الكثرة الغالبة من الناس، أو الطبقة النيرة منهم. ولئن صادف ألاَّ يكون هذا ولا هذا فهو إلى السخف والهذيان أدنى وأقرب. . .
غاية الفن أن يجلو النفوس ويهز الشعور، النفوس بأسرها والشعور على تلونه، شريطة أن تكون نفسنا وشعورنا في البداءة!
الكلمة الواحدة تدخل في رأسين اثنين، فتحمل إلى هذا النشوة والسلام، وتحمل إلى ذاك الفتنة والآلام!
كل امرئ وإن ثار متصل بالمجتمع، مدني بالطبع. وهذه الوشائج القوية المبهمة التي تربطه بالإنسانية تؤثر فيه ويؤثر فيها، قد لا يلمحها أوساط الناس وطغمتهم، وإنما تلمحها طائفة رفيعة خصها الله بسلامة الفكر، وحسن البصر، وقوة التصور، وهبة التصوير
قد يجيش صدر الأديب بالمعاني حتى ما يستطيع أن يحتملها، وقد ينضب حتى كأنه بلقع قفر. فحياته أبداً في نقلة وتناقض واضطراب، ما أشبه بإسفنجة رخوة لدنة تمتلئ حيناً وتفرغ حيناً! فكل ما خرج على لسانه قد تمثله من قبل ووعاه خياله، قاعدته في البيان:(خذْ وأعط)
قال سنت بوف: نصيحتي إلى أدباء الشباب ألاَّ يقلدوا من يعجبون بهم من أعلام البيان ورجال الفن، فذلك يميت نفوسهم ويشوه شخصيتهم، وإنما يتذوقون آثارهم فحسب، ثم يصورون حياتهم الخاصة كما صورها في صدق وغير تكلف، وليكن لهم مثل أعلى يوجه إنتاجهم ويصحح مقاييسهم ويهذب أهواءهم، ولا غضاضة عليهم - وهم ينشئون في لغتهم الصحيحة متأثرين بالمحيط والبيئة يستمدون منهما الوحي والقوة - أن يتساءلون من حين لآخر، وجباههم مرفوعة إلى السماء، وعيونهم شاخصة إلى الأموات الأحياء:(ترى ماذا يقال فينا!)
تستهل الحياة الأدبية عملها في الفرد والأمة بالشعر، وتدرج على الشعور، ثم تستشرف للتفكير، وتنتهي إلى النثر. ويكاد هذا يكون قانوناً لا يقبل استثناء، فلقد تذكو العاطفة فينطلق الكلام شعراً منظوماً، ويخبو الوجدان فينمو العقل ويستفيض النثر! وهنا السر كل السر في مناعة الشعر الصادق الرفيع، وندرة النابغين فيه من المعاصرين