قلت:(فأنني افتقد شيئاً هنا. . . في هذا المكان. . . كان لي أهل وأحبة، أودعتهم قلبي إلى ملتقى موعود؛ فهذه الدار خلا كما ترى إلا أنقاضاً ركمها الزمان حجراً على حجر؛ أفتدلني أين أجد أحبابي وقلبي؟)
قال:(لك الله ولأحبابك! أفحسبت انك وحدك الوفي الذاكر؟ إن فتاتك ما تزال هناك تنتظر وان الوديعة الغالية ما تزال في الحرز الأمين!)
قلت:(فما هذه التي تراءت لي هنا ثم تولت معرضة لم تنبس؟)
قال:(ويحك! ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها تختلج؟ إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)
قلت:(أفتراها مستطيعة أن ترد علي أيامي وقد تولى الزمان وحال المكان؟)
قال:(إن الحب لا يعرف الزمان ولا يحده المكان أنه لشيء من غير دنيانا لا يخضع لنواميس هذه الحياة؛ إن العاشق ليذكر على البعاد من يحب فإذا الماضي كله بين يديه وإذا الذي يهواه تحت ذراعه؛ وإنهما لاثنان هنا: هو خيال من يحب واثنان هناك: هي وطيف من تهوى. أفرأيت الزمان والمكان ساعتئذ قد استطاعا أن يحولا دون هذا اللقاء؛ أو رأيت شيئاً غير الحب يجعل الاثنين أربعة في زمان ومكان. . .؟
(ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها بها تختلج إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)
ولمحت زهرة ترف رفيفها في ظل جدار قائم وهي تناجي أختها نجوى الحزين إلى الحزين؛ كانتا وحدهما في هذا المكان رمز الحياة بين رموز الموت من تلك الصخور المجدلة. وإن للأحجار والجماد لحياة كحياة الناس وموتا كالذي ماتوا، إن البيت الآهل لحي بسكانه ما عمروه فإذا احتملوا وهجروه فما هو حينئذ بيتا حيا وإن بقيت له معالمه وأبوابه ومفاتحه وأقفاله وان في التراب يغطي أرضه وجدرانه لمعنى من معاني القبر!
ودنوت استمع إلى نجوى الزهرتين:
قالت إحداهما لجارتها:(ويلي - يا أختاه - من المقام بين تلك الأنقاض الميتة ما أكاد أشعر إنني زهرة ذات روح وعبير لماذا نمتني الأرض وزينتني بألوان الربيع إذا كنت لا أرى العين التي تتملى حسنى معجبة شهوى؛ ولماذا أنا زهرة إذا انقضت حياتي على وتيرتها بين هذه الأنقاض لا يشم عبيري أحد ولا تتناولني يد رفيقة. . .؟)
قالت أختها: (فإنك لتبطرين النعمة! وإنك في مقامك هنا لأسعد من أخوات لك هناك في