الآلهة، يدنو من الحيوان بغريزته الجنسية المتيقظة ينبوع القوة الخالقة عند الإغريق كما هي عند المصريين، ويقرب من الآلهة بغريزته الروحية المتصلة بقوى الطبيعة الإلهية، فهو ما زال يحتفظ بقبس من الحكمة العليا بدون أن يشعر، وببريق من ذلك النور الروحي والإلهام الذاتي يرى به كتلة الزمن من ماضي وحاضر ومستقبل في شبه لمحة واحدة.
تلك القدرة الخفية هي حاسة بائدة كانت للإنسان الأول، وفقدناها اليوم، نعم فقدنا كل القوى الروحية التي منحتنا إياها الطبيعة يوم كنا نحبها ونتصل بها، ولم يبقى لنا اليوم إلا العقل المحدود والمنطق القاصر. وها نحن اليوم في هذا الكون الهائل مخلوقات منفردة منبوذة! أين ذهب ديونيزوس؟ وهل يبعث من جديد؟ وإذا بعث فهل يجد من يعرفه في هذا العصر ذي الحضارة المادية الفردية؟!
رجل واحد ما زال يذكر هذا الإله ويستطيع أن يعرفه إذا ظهر كل عرف غالياس أصحاب الكهف!! وهو وحده كذلك الذي يستطيع أن يستقبله باسم هذا العصر، هذا الغالياس العصري هو:(تاجور) انه يتكلم كثيراً عن ذلك الاتحاد بين الإنسان والطبيعة. وعن ذلك الفاصل المرفوع بين الحياة الخاصة والحياة العظمى التي تخترق الكون. وعن ذلك الحب بين الإنسان والجماد. هذا كلام جميل. لكن هل تراه يشعر بحقيقته؟ يخيل إلي أن تلك الحقائق قد انطوت بانقضاء دولة الإغريق. بل لقد انقضت قبل أن تنقضي دولة الإغريق. انقضت بطغيان منطق سقراط على روح هوميروس. انقضت بطرد ديونيزوس من تراجيديات ايروبيد (غضبة نيتشه المعروفة) انقضت بظهور براكسيتيل على فيدياس، انقضت بغلبة الإحساس العقلي على الإحساس الروحي، انقضت بانتصار (أبولون) في النهاية على (ديونيزوس). وهكذا اختل التوازن، ورجحت كفة المادة، وانطفأت الحضارة الإغريقية إلى الأبد. ولم ترث أوربا منها غير كنوز العقل والمنطق، وبقيت في الظلام كنوز ديونيزوس الخفية.
لم تنجح اليونان إذن النجاح المطلوب في تطعيم الروح بالمادة، فهل تأمل مصر بلوغ هذه الغاية يوماً؟ أرجو من الدكتور أن يجيب، أنت وأصحابك ومدرستك قد فرغتم من تصوير وجه الأدب المصري، ولم يبقى إلا صبغه باللون الخاص، وطبعه بالروح الخاصة، فما هو هذا اللون؟ وما هي هذه الروح؟ إن ردك على هذا السؤال نور يلقي على طريق الجيل