بين عنصري الوجود، تلك حضارة الإغريق. نعم أعود فأرد إلى أمة الإغريق اعتبارها، وأعترف أني عندما وضعتها في كفة المادة كنت متأثراً بكلام (تين) فضللت السبيل. (تين) عقل خلاب لكنه عقل. والعقل وحده بعيد عن فهم الجانب الروحي للمدنيات. ما هداني إلى الحق إلا القلب. . . ألا طول تأملي في جبهة (البارتينون). من دماغ ذلك الجواد الذي خلقته يد (فيدياس) فوق هذا المعبد خرجت أفكار توحي إلي بأن أولئك القوم كانوا أعمق مما نظن، وكانوا يشعرون بشيء آخر غير مجرد المادة الظاهرة، وما لبثت (ميلبومين) أن جاءتني ببينة أخرى، وتأملت قليلاً فرأيت القناع قد كشف. ذكرت أن أصل الإغريق جنسان مختلفان: اليونان القادمون من آسيا المعروفون عند الهنود باسم (اليافاناس) أي عباد (يونا) والدوريون الحربيون البرابرة الهابطون من الشمال، اله اليونانيين:(ديونيزوس) إله الدوريين (أبولون). وهاهنا تفسير الإغريق: في هذا الصراع بين ديونيزوس رمز الروح والقوى الشائعة والنشوة. . . وبين أبولون رمز الفردية والشخصية الفارزة والوعي، الصراع بين الروح والمادة، وبين القلب والعقل، وبين النشوة والوعي، ديونيزوس إله آسيوي فيما يخيل إلي، جلب من الهند بالأمراء. فغدا في اليونان ينبوع الموسيقى، لهذا السبب قدرت إخفاق الفارابي، أن الموسيقى العربية وليدة عقل واع، لأن العرب أمة الفردية والوعي والمنطق العقلي والظاهر المحسوس، إن العرب من عباد أبولون وهم لا يشعرون. إن العرب لا يمكن أن يفهموا ديونيزوس ولا نشوة ديونيزوس. تلك النشوة الدينية الجارفة التي تخرج صاحبها من سيطرة العقل والوعي كي تصله مباشرة بالطبيعة. إن أغاني عباد (باكوس) الحماسية في الغابات ومزامير الـ (ساتير) لشيء بعيد إدراكه على العقلية الفردية، شعور الإنسان في لحظة أنه انقلب مخلوقا له جسم جواد ورأس رجل أو أرجل ماعز. هذا الاتحاد بين الحيوان والإنسان إحساس ليس له مثيل إلا عند المصريين القدماء، وهذا التلاقي بين الأنواع وبين القوى في مخلوق واحد لهو عند الأولين بقية ذكرى تلك المحلوقات الإلهية البائدة التي كانت تحكم الأرض قبل ظهور الإنسان. . . مخلوقات لا هي من الإناث ولا هي من الذكور، ولا هي من الحيوان، ولا هي من الإنسان، لأن الأجناس والفصائل لم تكن قد فرزت. كذلك (الساتير) في الميثولوجيا الإغريقية رمز الإنسان الأول، ذلك الإنسان الداني من الحيوان القريب من