تتخذ بالمسجد أهبات غير عادية، وركب إلى الصلاة في عيد الأضحى على هذا المنوال البسيط
وكانت هذه النزعة إلى البساطة تسود معظم المواكب والاستقبالات الرسمية. وكان الحاكم يركب في المدينة في ابسط المظاهر الديمقراطية التي تذكرنا بديمقراطية المسلمين الأوائل؛ فيرتدي ثيابا بسيطة، أو يرتدي دارعة صوف بيضاء ويتعمم بفوطة وفي رجله حذاء عربي ساذج، وقد يركب فرسا بلا زينة أو حمارا، وفي أحيان قليلة يركب محفة يحملها الرجال، وعشارية تشق به النيل؛ وكان اغلب طوافه بالقاهرة على الحمير دون موكب ولا ضجة، لا يصحبه من الحشم سوى بضعة من الركابية؛ وكان كثير الاتصال بالشعب فكان القصر مفتح الأبواب للمتظلمين وذوي الحاجات؛ وكان يستمع إليهم أثناء طوافه وينظر في مطالبهم كما قدمنا
وأما عن حياة الحاكم الخاصة فلم تصلنا سوى لمحات ضئيلة؛ ولكن لا ريب أنه كان يعيش بنفس البساطة التي كان يبدو بها في مظاهره الرسمية؛ وقد رأينا كيف اضطلع الحاكم بأعباء الحكم صبيا دون السادسة عشرة، وكيف أن انهماكه بالشؤون العامة منذ حداثته لم يترك له فرصة للانغماس في مجال اللهو والعبث التي يغرق فيها من كان في سنه وفي ظروفه؛ وقد كان الحاكم تحمله بلا ريب نزعة صوفية فلسفية؛ ذلك أنه كان يرى في التقشف مثله، ويحتقر متاع هذه الدنيا الدنيئة؛ ويرتفع عن مفاسد هذا المجتمع وعن غرائزه وشهواته النفسية الوضيعة. ولم يقل لنا أحد ممن كتبوا عن الحاكم، معاصرين أو متأخرين أنه كان يتصف بشيء من الرذائل الاجتماعية، بل تدل أقوالهم جميعا على أن هذا الطاغية الفيلسوف، كان نقيا في حياته الخاصة، بعيدا عن هذا الترف الناعم الذي يفت في الأجسام والأرواح القوية، متقشفا في مأكله وملبسه، حتى قيل أنه لبث أعواما يرتدي الصوف، وأنه امتنع عن دخول الحمام. والخلاصة إن هذه الشخصية العجيبة التي تقدم إلينا من نواحيها العامة في صورة مثيرة مروعة، تحملنا من نواحيها الخاصة على الإعجاب والاحترام بما تشف عنه من سمو ونقاه واحتقار للشهوات الإنسانية