وكان الحاكم يميل إلى التخفيف عن الشعب في أمر الضرائب فكان يرفع عنه أحياناً بعض المكوس حين الأزمات العامة؛ وقد يعيدها طبقا للظروف والأحوال؛ ولما فتحت دار الحكمة كان من رسومها أن يؤدي (المؤمنون) مال النجوى، وهو رسم اختياري ينفق من دخله على النقباء، وكانت تحصل أحياناً وتبطل أحياناً
- ٩ -
إلى جانب هذا الجود الشامل، وهذا التعفف عن أموال الرعية، كان الحاكم يتمتع بخلة أخرى اجمع المؤرخون على الإشادة بها، تلك هي زهده وتقشفه في مظاهره العامة وفي حياته الخاصة، ثم تواضعه المؤثر واحتقاره للرسوم والألقاب الفخمة التي كان يحيطه بها ملك قوي وخلافة باذخة. وكان لأول حكمه قد أمر بمنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلا أمير المؤمنين وحده؛ ثم عاد فاصدر أوامره، بألا يقبل أحد له الأرض، ولا يقبل أحد ركابه ولا يده عند السلام عليه، إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق، وإنما هي بدعة من صنيع الروم لا يجمل أن يجيزها أمير المؤمنين؛ ويكفي في السلام الخلافي أن يقال:(السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته)، كذلك يجب ألا يصلى عليه أحد في مكاتبة ولا مخاطبة، بل يقتصر في ذلك على (سلام الله وتحياته ونوامي بركاته على أمير المؤمنين) ويدعي له بما تيسر من الدعاء فقط، وقد كانت الصلاة على أمير المؤمنين من أخص رسوم الخلافة الفاطمية، وكانت الإمامة عنوانها، وكان يصلى على الخليفة كما يصلى على النبي في الخطبة، وفي المكاتبات والمحادثات الرسمية. ولكن الحاكم ابطل هذه الرسوم ولم يقل الخطباء يوم الجمعة سوى:(اللهم صلي على محمد المصطفى، وسلم على أمير المؤمنين على المرتضى، اللهم وسلم على أمراء المؤمنين، آباء أمير المؤمنين، اللهم اجعل افضل سلامك على عبدك وخليفتك. . . الخ)، ومنع الحاكم أيضا ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصار الحرس يطوفون بلا طبل ولا أبواق. وركب الحاكم يوم عيد الفطر (٤٠٣هـ) إلى المصلى بلا زينة ولا جنائب ولا موكب فخم، واكتفى بأفراس عليها سرج ولجم محلاة بفضة خفيفة، وبنود ساذجة، ومظلة خلافية بيضاء بلا ذهب، يرتدي البياض بلا حلية ولا ذهب، وعمامة دون جوهر، ولم يفرش المنبر، ولم