انتهت إلينا عن الفترة الأخيرة عن عصر الحاكم وعن تصرفاته الدينية ومؤازرته للدعاة السريين كما سنبين بعد
- ٨ -
ولننتقل إلى ناحية أخرى من تصرفات الحاكم هي تصرفاته المالية. كان الحاكم بإجماع الرواية، جواداً وافر البذل، وكان كثير الزهد بالمال؛ وكانت الخلافة الفاطمية قد حققت في عهدها القصير من الأموال والثروات الطائلة من الجواهر والتحف الباذخة ما يفيض في وصفه المؤرخون المعاصرون بما يدهش ويبهر، وتكدس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجل قدره ووصفه. ولكن الحاكم لم يغرق في تلك المظاهر الفخمة التي كانت تنثرها الخلافة الفاطمية من حولها؛ وكان يؤثر بطبيعته مظاهر الانكماش والبساطة، وكان خلافا للطغاة يعف عن مال الرعية، فإذا بدا له أن يصادر مال كبير مغضوب عليه فإنه يضيفه إلى الأموال العامة، وقد انشأ لذلك ديونا خاصا يسمى بالديوان (المفرد) تضاف إليه أموال من يقضى عليهم بالمصادرة؛ وقد ترد هذه الأموال إلى أصحابها متى زالت أسباب السخط عليهم؛ وقد تبقى نهائيا وتستعمل في الشؤون العامة
واشتهر الحاكم طوال عهده بالسخاء والبذل، وكان يسرف في العطاء أحياناً إلى حدود تهدد مالية الخزينة، وتثير اعتراض الوزراء ورجال الدولة؛ ومما يؤثر في ذلك أن أمين الأمناء الحسين ابن طاهر الوزان اعترض ذات مرة على إسراف الحاكم في الصلات والعطايا، وبلغ الحاكم اعتراضه وتوقفه في تنفيذ الأوامر، فبعث إليه بخطه في الثامن والعشرين من رمضان سنة ٤٠٣ بهذه الرقعة المؤثرة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله كما هو أهله ومستحقه:
أصبحت لا أرجو ولا اتقي ... إلا إلهي وله الفضل
جدي نبيِّ، وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل
ما عندكم ينفذ، وما عند الله باق، والمال مال الله عزوجل، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام) وكان ذوو الحاجات يقصدون الحاكم أثناء طوافه، سواء بالنهار أو الليل، ويرفعون إليه حاجاتهم وظلاماتهم، فيقضي فيها بنفسه، ويقضي حاجات الكثيرين، ويثير العطايا على المحتاجين. بيد أنه لم يكن يخلو في ذلك من