يعودوا إلى بيوتهم ورسول الله في رحالهم راضين بأداء واجبهم ورضى ضمائرهم جزاء على أعمالهم. ما كان هؤلاء ليحرصوا على الحكم بل سمحت نفوسهم به، ورضوا بأن يكونوا الوزراء دون الأمراء بعد أن لم يرضى المهاجرون بان يجعلوا منهم أميراً مع أميرهم.
في هذا الموقف تقررت أمور كثيرة ذات خطر عظيم في دستور دولة المسلمين. فتقرر أن يخرج الأنصار من الأمر فلا يكون الخليفة منهم بل يكون من إخوانهم المهاجرين من قريش. وتقرر كذلك أن تكون دولة الإسلام موحدة منذ أبي المهاجرون إلا أن يكون على المسلمين أمير واحد من المهاجرين، ولو قبل مبدأ أن يكون في المسلمين أميران أحدهما من أهل المدينة والآخر من المهاجرين من أهل مكة، لانقسمت دولة الإسلام إلى قسمين من أول أمرها ولسار تأريخها سيرة أخرى غير التي سار فيها.
ولم يكن الأنصار وحدهم الذين رفعوا رؤوسهم يتساءلون عن الأمر لمن يكون، بل إن قبائل العرب جميعها اشرأبت أعناقها تتطلع إلى الحوادث الجارية. فخرج بعضها عن الإسلام جملة، وقال بعضها يجب أن يكون الإسلام ديناً لا حكماً فامتنعوا عن أداء الزكاة التي هي رمز الحكم وحق الدولة على رعيتها. غير أن ذلك الأمر لم يتعد الحد في خطورته فاستطاع المسلمون في المدينة أن يبسطوا سلطانهم على القبائل مرةً أخرى وأصبحت لهم بعد شهور قلائل دولة متحدة متماسكة.
على أن طريقة اختيار أبي بكر نفسه، لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح. ولم يكن الحال عند ذلك يسمح للناس أن يطيلوا التفكير في طريق الاختيار لعلمهم بما حولهم من المشكلات والأخطار. فبعد أن اتفق المهاجرون والأنصار على المبادئ العامة ورضي الأنصار بمكانة الوزراء دون مكانة الأمراء، ولم يبق موضع للتردد الكثير في قبول مرشح المهاجرين، ولو سمي رجل من أكابر الصحابة غير أبي بكر للقي قبولاً عند ذلك، ولكن المسلمين وفقوا أكبر توفيق في اختيارهم. وكان اختيارهم نتيجة شعور عميق وصراحة عقيلة نادرة، فلم يجاملوا ولم يحابوا، بل نطق عمر بما وافق هواهم، فسمى لهم أبى بكر فرضوا به ولم يتطلبوا أن يتبع اختيار خليفتهم رسم خاص ولا خطة تضمن صدق الاختيار. وأكبر الظن أنه لم يخطر ببالهم أن هناك طريقاً آخر غير أن يسمي أحدهم رجلاً