للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التأثير على قلوب الناس، وهي متحجبات من وراء النقاب. وهذه مبالغة لم نر لها مثيلا في شعر شوقي، وقد يتجاوز هذا المفهوم حدود المبالغة إلى تكذيب الواقع له والذي أراه في هذا البيت، هو أن القادم إلى العراق إنما يرى منه السواد قبل كل شيء فيه، بالنظر لكثرة ما فيه من خمائل ومزارع ونخيل حتى عرف في التاريخ بهذا الاسم، وبذلك تكون الظباء وراء السواد بالنظر إلى القادم إليه، وهي في أثنائه في حقيقة الأمر الواقع. وهذا البيت ولاشك من وحي العبقرية أيضا، وفيه ابلغ ما تصل إليه رقة الشاعر في شعره

وإننا نجد المبرز في الشعر قد يرتفع في كل قصيدة من قصائده بالبيت أو البيتين أو الثلاثة أو ببضعة أبيات. ولكنه مع ارتفاعه هذا لا يغيب بشعره عن أعين القراء. غير أن شوقي قد شب في الشعر عن الطوق، وبذ زملائه الشعراء في كل بيت يرتفع فيه عن مستوى الشعر حتى يتواري فيه عن الأبصار. فلا تكاد تقع عليه إلا بعد الجهد الجهيد، ولا تنظر إليه إلا من بعيد كما ظهر لقراء الضاد في هذين البيتين، ونحن لا نشك في إن فهمهما يحتاج إلى مجهود عقلي كبير، وتلك ميزة النابغ من الشعر، تفرد بها شوقي عن شعراء جيله، وبها فضل الجميع

وهنا أود أن اذكر ملاحظة العالم النفسي الدكتور ناجي بك الأصيل حول شاعرية أحمد شوقي بك، قال الدكتور: على الجيل الحاضر أن يحدد شاعرية شوقي بك في المدى الذي بلغت إليه، وإلا فإن الأجيال القادمة سوف تخطئ في تقديره. وعلل هذه الفكرة بأن هناك من الشعر لشوقي ما قاله وهو فيما وراء الشعور، ومع ما في هذه الفكرة من العلو والنضوج فإنها لا تأتلف والحقيقة. لان مثل هذه الأبيات التي يشير إليها الدكتور هي من وحي الإلهام، وقد قالها شوقي وهو في غيبوبة العبقرية وبها أستحق كل هذا التقدير من أبناء الضاد واصبح له فيها الخلود، ولا يمكن أن تحمل على أن شوقي قال ما لم يدر، أو أن شاعريته اقل من شعره، لان في ذلك المنطق المغلوط. ولعل الدكتور ينحرف في فكرته قليلا إلى القول بوجوب تحليل أبيات شوقي التي قالها في غيبوبة العبقرية، لئلا تفوت الأجيال القادمة بعض الدقائق النفسية التي يعرفها الجيل

هذا ما عنّ لي ذكره في هذين البيتين اللذين كثر حولهما القيل والقال ومن كان له فيهما شيء يقال فليأت بما عنده، إذ الحقيقة بنت البحث

<<  <  ج:
ص:  >  >>