سأل بستور خصومه:(من أين تأتي هذه الخمائر؟ أنها تظهر في عصير العنب فتصيره خمرا أين كان من الأرض، وفي أية ساعة كان من الزمان. وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى التي تحمض اللبن، وتفسد الزبد في كل قدر أين وجد من مشارق الأرض ومغاربها، تلك الأحياء كيف مأتاها؟)
اعتقد بستور كما اعتقد أسبلنزاني، أن هذه المكروبات لا يمكن أن تأتي من مادة اللبن أو مادة الزبد، وهي ميتة لا روح فيها. واعتقد أنه لأبد لها من آباء. فترى من هذا أنه كان كاثوليكيا صميما. نعم لقد عاش بين الشكاكين ذوي العقول الراجحة على ضفة (السين) اليسرى في باريس، حيث لم يكن يذكر أسم الله إلا كما يذكر أسم (لينين) في بورصة نيويورك. ولكن هذا الشك لم ينل شيئا من عقيدة بستور. وكانت نظرية النشوء قد بدأت تشيع بين هؤلاء الشكاكين على أنها طراز للتفكير مستحب جديد. كانت أنشودة الكون العظمى تحكي لنا كيف بدأت الحياة مادة لا شكل لها ولا قوام، تخرج من حمأ وبخار، ثم تظل تتحول على ملايين السنين، فتتشكل في عدد عديد من الصور، وتمر في موكب حافل طويل من الاطوار، حتى تصل إلى طور القردة، وعندئذ تتمطى القردة فتصير رجالا تمشى على رأس هذه الخلائق. وقال الفلاسفة في شيء من يقين العلم ووثوق العلماء: أن هذا الاستعراض الهائل ليس بحاجة إلى إله يبدؤه، ولا إله يديره
وأجابهم بستور يقول:(أما فلسفتي أنا ففلسفة قلبي لا فلسفة عقولكم. فلسفتي تأتي من مثل هذا الشعور الذي يأتي بالسليقة إلى قلب المرء وقد جلس إلى سرير ولد عزيز عليه أخذ يجود في عسر بالبقية الباقية من أنفاسه. من مثل هذا الشعور أتعلم فلسفتي عن الوجود. وفي مثل هذه الدقائق الرهيبة أسمع أصداء تأتي من أعماق روحي تقول لي: (من يدريك، فلعل هذه الدنيا أكثر مما يزعمون، لعلها أكثر من مجموعة أحداث تأتي من توازن آلي يخرج من عماء العناصر بفعل قوى المادة وحدها).
لقد كان بستور رجلا تقياً نقياً
ولى بستور للفلسفة ظهره، وتوجه للعمل. واعتقد أن الخمائر، وأن العصى الحية، وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى إنما تأتي من الهواء. وتخيل الهواء مليئاً بتلك الخلائق التي لا ترى. بالطبع كان غيره من بحاث المكروب قد أثبتوا أن هذه الأحياء مأتاها من الهواء،