ولكن بستور اصطنع أجهزة مركبة ضخمة لإثبات ما أثبتوه مرة أخرى. حشا أنبوبة من الزجاج بشيء من القطن، ثم أخرج أحد طرفيها من الشباك، ووصل الطرف الآخر داخل الغرفة بمضخة تجر الهواء، وشغلها حتى امتص نصف هواء الجنينة، ثم أنتزع القطن، وحاول أن يعد الأحياء التي احتبست عليه. واصطنع أجهزة أخرى غير أنيقة المنظر ليحمل سدادات القطن هذه بما عليها من المكروب إلى مثل هذا الحساء الذي كان نما فيه الخمائر ليعلم أيتكاثر هذا المكروب فيه. وأعاد تجربة أسبلنزاني القديمة، فأتى بقارورة مكورة، ووضع فيها بعض هذا الحساء وختم على رقابها بإساحتها في اللهب، ثم أغلاها دقائق، وامتحن حساءها من بعد ذلك فلم يجد فيه مكروباً أصلاً.
صاح به من كانوا لا يزالون يعتقدون في انبعاث الحياة من ذات نفسها، من غير آباء وأمهات. صاحوا به يقولون:(ولكنك يا هذا أغليت الحساء فأسخنت معه الهواء، وهذه الأحياء الصغيرة إنما تحيا في الهواء وهو على طبيعته من غير تسخين. وشركهم في صياحهم النشوئيون، والنباتيون المرتابون، والفلاسفة الملحدون، صاحوا من بين المداد والكتاب، لا من بين اللهب والقباب)
فاختلط الأمر على بستور حيناً، وحاول عدة طرائق ليجمع بين حساء مغلي، وبين هواء لم تنله النار بالتسخين، ومع هذا خلو من تلك الأحياء. وجاهد في أثناء ذلك ما استطاع أن يلبس وجهاً مطمئناً للأمراء والأساتذة وأرباب الصحف الذين أحاطوه عندئذ يترقبون المعجزات التي أوشكت أن تقع على يديه.
وكان أولو الأمر قد نقلوه من معمله الضيق ذي الفئران بسطح المكان، إلى بناء صغير يقع على أربع دقائق أو خمس من باب مدرسة النرمال، بناء يضيق بالخنازير الجينية التي تحتاجها معاهد البحث في الأيام الحاضرة. وفي هذا البناء الصغير قام بستور بجهاده الشهير ليثبت أنه لابد لكل حي مهما قل وحقر من آباء. وكان جهاداً بالتجربة الحاذقة، ولكنه كاد يتسفل أحياناً إلى نزاع كالذي ينشأ بين الغوغاء، فلا ينفض إلا بصفع الأقفية ولكم الوجوه. ودار بستور بادئ بدء يحتال للتجارب العديدة وينصب الأجهزة الكثيرة، فأبدل من تجاربه البسيطة الأولى تجارب مركبة، ومن أجهزته اليسيرة الأولى أجهزة صعبة معقدة، فكثر حجاجه وكثر كلمه، وقلت حجته وقل إقناعه. والحق أنه وقع في مأزق