ولما قتل عمر بن الخطاب كانت الدولة في حال غير حالها الأول فقد فتحت الفتوح وأستقر العرب في البلاد المفتوحة وأنشئوا فيها أمصاراً لهم وعظمت شوكتهم فلم يكن يخشى عند موته من خذلانهم إذا طالت مدة اختيار الخليفة بعض الطول. فلم يشأ عمر أن يترك الناس لطريقة اختيار أبي بكر خوفاً من كثرة التردد والاختلاف، وما قد ينجم عنه في بلاد مثل بلاد العرب يسهل أن يثور فيها تعصب القبائل والعشائر ولاسيما بعد أن صار في المسلمين زعماء كثيرون معروفون امتازوا في حوادث الفتح بحسن الفعال وأصالة الرأي ولو لم يكونوا من أصحاب السابقة في الإسلام الذين جرى المسلمون على تقديمهم في أول الأمر، وكذلك لم يشأ عمر أن يوصي إلى رجل واحد كما أوصى أبو بكر إليه فأنه رأى أن في ذلك الشيء الكثير من عبء المسؤولية والاستبداد بالرأي في وقت ليس فيه ما كان عند وفاة أبي بكر من الخطر على الدولة وجنودها في ميادين القتال. فابتكر عمر طريقته المعروفة وهي وسط بين فرض الرأي وبين ترك الاختيار، ففرض رأيه في ترشيح جماعة من الزعماء أولي القدم والسابقة في الإسلام، ولم يخرج عن السنة الأولى، فاختارهم جميعاً من المهاجرين وترك لهم بعد ذلك أن يختاروا واحداً منهم يرضونه في مدة ثلاثة أيام، وأمر زعيماً اسمه مسلمة بن مخلد ألا يدعهم إلا مدة تلك الأيام الثلاثة.
وكان اجتماع هؤلاء المرشحين أهل الشورى وطريقهم في الاختيار خطوة واسعة في سبيل بناء دستور عربي متين لو بلغ مداه لكان من أتم نظم الحكومات.
أخرج أحدهم نفسه من الأمر واجتهد اجتهاداً لا يصدر إلا عن قلب عامر بحب المصلحة العامة، وقضى الليالي الثلاث التي جعلت للاختيار وهو لا ينام ولا يستريح بل يقضي الوقت كله في سؤال الناس سراً وعلانية. فسأل الأنصار والمهاجرين وسأل زعماء المسلمين وسأل قواد الجنود الذين وجدهم في المدينة عند ذلك وهم يمثلون جنود العرب الذين بالامصار، فكان بذلك ساعياً إلى الاستنارة برأي مختلف الدوائر، واستشارة مختلف الطبقات، والنظر إلى الأمر من مختلف النواحي. فلم يكن بين هذا وبين الانتخاب العام إلا خطوة واحدة، وهي أن يحصر حق الانتخاب في جماعة تتوافر فيهم صفات معينة وان تؤخذ آراؤهم بطريقة منظمة.