والخلود، حتى كبر الفتى بردكس، ابن أخي ديدالوس؛ وكان شاباً ممتلئ الجسم، مفتول العضل، قوي الملاحظة، دقيق الفهم، سريع التصور؛ ما كاد يتتلمذ لعمه حتى بلغ شأوه، بل هو قد فاقه بمزج الشعر والموسيقى بفن الحفر والمثالة، ولاءم بين روحها جميعاً، فكان يبرز تحفه في مظهر دقيق وطراز أنيق؛ ثم هو يضفي عليها من شبابه الغض، وروحه العطرية الشاعرة، ظلال الحب، وسمات الفتنة، ويحرك فيها عواطف الآلهة!
ولهج الاثينيون باسم هذا الفنان الشاب، وتناسوا عمه الذي هو أستاذه وملهمه. وضاق ديدالوس بابن أخيه ذرعاً، وساءه أن تكسف شمسه الوضاءة المتلألئة، نجمه الذي لبث زماناً يسلسل نور الفن في أرجاء هيلاس
وما فتئ العم يحنق ويحنق، وما فتئ بردكس يسمو بفنه إلى الذروة، حتى لسعت عقارب الغيرة قلب الشيخ الفنان، ونفثت فيه سمها، فلم يعد يطيق هذا الخصم الذي صنعه لنفسه بيديه، ولم يعد يحتمل أن يرى نفسه كماً مهملا بجانب الفتى العبقري، فأقسم ليزيحنه من طريقه، ولو بتجريعه كأس المنون، وزين له أن يحتال عليه، فيذهب وإياه إلى شعاف جبل شاهق، ذي مهاو تنتهي إلى اللج الجياش في اليم، حتى إذا كانا فوق القنة المشرفة على البحر المصطخب، نهز منه غرةً ودفع به إلى الأعماق، حيث ينشق له قبر من الموت. . . والنسيان!
وأنفذها ديدالوس المسكين!
ولكن الآلهة كلها كانت تنظر، وتستعد للمعجزة! وكيف؟!
لقد أستجمع الشيخ كل قوته، ووضع في يديه كل منته، ودفع بابن أخيه من فوق القنة، فتردى الفتى على حدور الجبل، حتى إذا كان بينه وبين الموت قاب قوسين، هبطت منيرفا سيدة الأولمب، وصاحبة أثينا، من عليائها، فأنقذت بردكس من قتلة محققة، ثم نفثت في إذنه نفثتين، كان بهما فرخاً حزيناً من أفراخ القطا، راح يرف في السماء مدوماً فوق عمه، حتى كاد يصعقه من حيرة وعجب!!
وانقلب ديدالوس إلى بيته أسوان أسفاً، ووقر في نفسه أن الآلهة التي سحرت بردكس لتنقذه من تدبيره السيء، لأبد أنها تترصده، ولابد أنها ستأخذه بأوزاره في القريب، غير متجنية ولا ظالمة؟