ثم مضت سنون وولد لديدالوس طفل جميل الصورة، طلق المحيا، مشرق الغرة، سماه إيكاروس. ولكن الطفل لم يستطع أن يخفف من الروع الذي كان ينتاب أباه، أو يذهب بسورة الهم التي كانت تجثم على قلبه، وتثقل على نفسه، كلما تصور الهامة المفزعة التي يضطرب بها نومه، فتقض مضجعه وتزلزل كيانه
لقد كانت القطاة تتمثل له كلما أغمض طرفه، كأنها روح ميت ترنق على خصمها تكاد تصعقه. وازداد الشيخ خبالاً حينما ألحف عليه الأثينيون يسألونه عن بردكس أين قضى وأيان ولى! وأخذ الغوغاء يلغطون، وشرع الخاصة يتسقطون أخبار الفتى الفنان، ودأبوا على عمه يسألونه عنه، وهو يضلل بهم ويخترع لهم، حتى أوجس أن ينكشف سره، فينكل الناس به. فآثر الهجرة عن أثينا المحبوبة، إلى صديقه مينوس ملك إقريطش، مصطحباً معه ابنه الطفل إيكاروس
وتطامن الدهر، وشب إيكاروس وترعرع، وأخذ عن والده من الفن ما أخذ بردكس من قبل، وحسب ديدالوس أن الزمان قد غفل عنه، وأن أعين الآلهة قد غفت واستنامت، وأن الأيام قد ابتلعت إثمه الكبير في تضاعيفها القاتمة المظلمة، فأستيقظ الغرور في قلب الفنان الشيخ، ولم يتقبل ما غمره به مينوس الملك من النعم بالشكر الواجب على لاجئ طريد مثله، بل بطر وأستكبر، وكفر بأنعم مولاه وآلائه، ومد له هواه فولغ في إناء الملك، بعد أن أختلط بأهل بيته اختلاطاً شائناً أدى إلى كثير من القيل والقال
وعلم الملك بما كان من خيانة ديدالوس فأمر بالقبض عليه، واعتقاله في إحدى غرف القصر حتى يقضى في شأنه؛ فأُلقي به في حجرة منفردة في طرف القصر، مشرفة على الماء، متصلة بالسماء
وطالت عزلت الفنان الشيخ في معتقله هذا، وضاق ابنه بالحيز الضيق الذي يحبس أنفاس روحه، ويحسر مرامي مقلتيه، ويشيع الهم في حنايا ضلوعه، فقال لوالده وهو يحاوره:(أهكذا قضى علينا أن نموت هنا صبراً يا أبتاه!) وكانت كلمات إيكاروس المبللة بالدموع تذهب كالصدى في أذان الشيخ، وكان الغلام يجتذب اللفظة المفردة من فم أبيه، فما كاد يفوز إلا بلا. . . أو بنعم. . .
وكانت للغرفة التي اعتقلا فيها شرفة صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط، وكان