منظر السفائن الماخرة كالأعلام، والطير صافات من فوقها كأنها تسبح بدورها في لج من زرقة السماء، يثير في نفس الفتى أحلاما وأخيلة وأمنيات. وأنه لفي أصيل جميل يناجي الطبيعة من شرفة سجنه الصغيرة، إذا به يذهب إلى والده مستبشرا متهللا، ويقول:(أبي! أعجزنا أن نصنع لنا أجنحة كهذه الطير. فنفلت بها من هذا المكان الرهيب؟.)
وكان الشيخ جالسا في زاوية مظلمة من زوايا الغرفة يجتر أحزانه، ويتغنى آلامه، فلما سمع ما خاطبه ابنه به، افتر فمه العجوز عن ابتسامة منقبضة مغضنة، وشاعت في أساريره بوارق أمل جديد!
وقال لابنه:(أجنحة وأنى لنا بالريش يا إيكاروس؟)
فقال الولد:(لا عليك يا أبي، أن غرفة الدجاج قريبة من هنا!)
وعبس الفنان الشيخ، وقال:(والحارس الفظ؟. . .)
فتضاحك إيكاروس قائلا:(الحارس!؟ أمره أهون مما ترى. . . سنرشوه يا ابتاه، فيحضر لنا ما نشاء من الريش، وسنخدعه أننا صانعان له لباسا لا تحلم الملوك بمثله!)
ولكن العبوسة التي رفت على جبين الشيخ أنشبت فيه جميع مخالبها، وقال:(دعني أفكر يابني، دعني أفكر يا إيكاروس. . .)
وهكذا كانت العبقرية البكر، الكامنة في هذا الفتى الصغير، لقاحا بعيد الأثر في عبقرية الشيخ الفاني المتهدم، وهكذا بدأ الفنان الأكبر، باني اللابيرنث، ومشيد هياكل الآلهة، يفكر في هذا المقترح الشارد الذي اقترحه عليه الفنان الصغير!
(أجنحة. . . دجاج. . . ريش. . . الحارس الفظ. . . مينوس. . . بردكس. . . فرخ القطا. . . الطير. . . إيكاروس ابني. . .!) وهكذا انبطح الشيخ على وثيرته تتداعى هذه الخلجات في رأسه الساخن المتأجج، تذكى فيه الذكريات والماسي!
وأحتال الفتى على الحارس حتى حصل على مقادير هائلة من ريش البط والإوز والديكة؛ وفكر الشيخ كيف يثبت الريش في مكانه من عضد الجناح، فادخر الشموع التي كانت تترك له يضيئها في الليل، ليتضاعف بلهيبها الخافت حزنه؛ حتى إذا كان لديه قدر كبير منها، عمد إليها فصهرها، وثبت بها ما شاء من الريش، وبذلك صنع زوجين من الأجنحة الكبيرة، يكفي أحدهما لحمل فيل!