ولسنا ندعي أننا نستطيع أن نعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ننفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك الكثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله؛ ولكن الذي نود أن نقوله هو إن هذه القوانين والإجراءات، كانت عكس ما تصورها الرواية الإسلامية بأنها نزعات طاغية مضطرب الذهن، تكون في مجموعها برنامجاً إصلاحياً شاملا، وترمي في مجموعها على تحقيق غايات لا ريب في حكمتها وسموها
يقول العلامة دوزي:(لم تكن قوانين الحاكم سخيفة كما يحب أن يصورها الرواد السنيون الذين اعتادوا ان يقدموا إلينا من هذا الأمير شخصية مضحكة لا صورة حقه) ثم يقول: (ولقد أراد الحاكم أن يكافح الانحلال الشامل الذي سرى إلى مجتمع عصره بقوانين بوليسية صارمة، وأحيانا غريبة شاذة) ثم يشرح رأيه بعد ذلك على ضوء هذه القوانين والأحكام المختلفة، ويحدثنا بعطف عن تواضع الحاكم وتقشفه، ويقول ميلر بعد أن يلخص قوانين الحاكم الاجتماعية (إن هذه التصرفات ليست كلها تنم عن الحماقة؛ وإذ كنا لا نستطيع أن نعلل كل أعماله، فليس ذلك مما يحملنا على أن نعتبر تصرفاته فورة أهواء مستبد ولا سيما ونحن نراها في نواحٍ أخرى سليمة معقولة. وكل ما وصلنا من الروايات إنما هو وقائع مجردة، مشوهة ومبالغ فيها بلا ريب؛ وإنه ليكون من المدهش اليوم أن نستطيع أن نحل رموز هذه المعضلة الشاملة) ثم يقول: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه أما باطني متعصب، توهم في نفسه الإغراق والألوهية، وأما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذبها، وأعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته. وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك وربما لا يستطيع أن يظفر بالحقيقة هنا سوى خيال شاعر)
والخلاصة أن الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الوضيعة الساذجة، ولا تلك العقلية المخرفة التي تقدمها إلينا الرواية؛ ولم تكن أعماله وأحكامه، كما صورت على كل العصور مزيجا من النزعات والأهواء الجنونية؛ وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهنا بعيد الغور وافر الابتكار وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل. وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق.