أكثر من كيلين في هذا المضيق، وخالط نفسه الضيق والملل من طول هذه الرحلة وعنائها وما قاسى فيها من التعب والجوع والعطش والنعاس، وما عانى من سوء الصحبة، وقبح الأخلاق، وخلف أن تعطل السيارة، أو يضلوا الطريق، أو تمسكهم وعرة، فينفد الماء ويموتوا عطشاً. . ولم يخف لصاً ولا سارقاً، فقد جعل ابن السعود خور حمار وهو أفظع مكان في البادية، آمن من ميدان النجم في باريز!
وفكر أيبلغ المدينة أم يهلك من دونها، وهاجمه تصور المدينة، وأحيا في نفسه الأمل مرأى القبة الخضراء وهي طالعة عليه من وراء الأفق البعيد، وطار بها إلى الملأ الأعلى تخيله الوقوف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاته في الروضة، وقيامه من بعد أمام الكعبة، وشربه من ماء زمزم، وسعيه بين الصفا والمروة، وشهوده هذه الأماكن التي ولد فيها الإسلام وعاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت مهبط الوحي، ومطلع شمس النبوة، ومعقد الآمال من نفس كل مسلم.
واستغرق في تفكيره فلم ينبه إلا صوت مؤذن القوم يرن في هذا الوادي الساكن: الله أكبر، لا إله إلا الله فتردد نداءه هذه الصخور الشم. وتمد الإبل أعناقها مصيخة هادئة، ويهب البدو من منامهم ليقيموا الصلاة، وأصحابنا السواقون ومعلموهم يغطون غطيط البكر. . .
ثم قاموا إلى الصلاة، فأمحى الخوف من نفسه، وصغرت عليه البادية، وهانت عليه مشاقها، وتضاءلت هذه الجبال القائمة حتى كأنما لصقت بالأرض، وكأنما طويت له الغبراء فلم يعد ملقى في البادية على بعد ألف وثلثمائة كيل من منزله في دمشق كحبة من الرمل، أو هو أهون على الحياة منها، لأنها وان طار بها ريح، أو حملها سيل، باقية كما كانت، لا تموت ولا تندثر، وهو يموت من أجل رغيف من الخبز وكأس من الماء، بل أحس كأنما هو في منزله، ولم لا؟ وما يناله في البادية إلا ما قد كتب عليه، ولا ينال في منزله إلا ما كتب له، وإذا كان يأمن على نفسه اللصوص والأعراب وينام في عرض الصحراء، كما ينام في أرض غرفته، لا يمنعه باب، ولا يحميه حارس، ولا يخالط نفسه خوف ولا جزع، لأنه في حمى ابن السعود وأرضه، أفلا يأمن من كان في حمى الله رب ابن سعود وأرضه؟
وكان القوم قد هبوا فأقبلوا يضمون الشاي والقهوة، وجلست حيال صخرة أكتب هذه الكلمة (للرسالة)، لأبعث بها مع جندي من البدو إلى بريد العلا. . . . . ولست أدري أتخرج من