للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبدأ بستور رحلته بهذه القوارير. فذهب أول ما ذهب إلى مرصد باريس فنزل إلى حجراته المطمورة تحت الأرض. وأجال نظره فيها ثم التفت إلى صبيته وقال: (كيف تجدون هذا المكان؟ إنه هادئ بالغ الهدوء، ساكن بالغ السكون، قل فيه الغبار فعز فيه المكروب)، وقام الصبية إلى القوارير فامسكوها بعيداً عن أجسامهم بمقابض من المعدن أحميت في النار قبل ذلك، وأخذوا يفضون أختامها حتى بلغ المفضوض منها عشر قوارير، وكلما فضوا ختم قارورة دخلها الهواء فسمعوا له صفيراً. وما كاد يدخلها الهواء حتى عادوا فختموا القارورة على التو مرة أخرى، وذلك في لهب مصباحٍ زيته الكحول. وذهبوا إلى فناء المرصد ففضوا فيه عشر قوارير أخرى على مثال ما وصفنا: ثم أسرعوا عائدين إلى معلمهم، إلى ذلك المحضن تحت حنية السلم، فوضعوا القوارير فيه

وبعد أيام كنت تجد بستور قاعداً القرفصاء أمام هذا الفرن ينظر قواريره في رفق وحنان، وعلى فمه ابتسامة من ابتساماته النادرة، فإنه لم يكن يضحك إلا إذا جاءه التوفيق والنجاح. وكتب شيئاً في كراسته وحرج يزحف من هذا الحجر ليخبر أعوانه أنه وجد تسع قوارير رائقة من العشر التي فتحوها في قاع المرصد، (فهذه القوارير التسع لم يدخلها مكروب واحد. أما العشر التي فتحناها في الحوش فتعكرت كلها بالملايين من تلك الخلائق. إن الهواء هو الذي أدخلها في القوارير. إن هباء هذا الهواء هو الذي حملها معه!)

وكان الوقت صيفاً، ودراسات المعاهد معطلة والأساتذة يستجمون، وحق لبستور أن يستريح مثلهم، ولكنه جمع ما بقي من القوارير وأسرع إلى القطار، إلى بلده القديم في جبال الجورا فصعد جبل بوبية وهناك فض أختام عشرين قارورة ثم لحمها. وذهب بالقوارير إلى سويسرا، وتسلق جبل مونت بلان مغامراً مخاطراً، وعلى أكتاف هذا الجبل العظيم فض أختام عشرين قارورة أخرى فدخلها الهواء صافراً. ورجا بستور أنه كلما علا في الجو قل العدد الذي يتعكر من قباباته. وقد تحقق رجاؤه. قال: (هذا ما كنت أرجو، وهو ما يجب أن يكون. فإني كلما صعدت في الهواء قل الغبار فقل المكروب الذي يركبه دائماً). وعاد إلى باريس فخوراً، وأخبر الأكاديمية أنه اصبح من الثابت المحقق أن الهواء وحده لا يستطيع إحداث المكروب في الأمراق، وأن لديه على ذلك براهين سيدهش لها كل إنسان. صاح فيهم يقول: (هنا، بهذا المكان توجد مكروبات. وهنا، على مقربة من المكان الأول لا توجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>