للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الرجل عن طبيعته في الحياة الخاصة يخرجه عنها ما يخرجه في الحياة العامة. لا يطيب له مجلس العوام ولا الدخول في حلقاتهم. وإنما هو في حياته كما تمثله لنا كتاباته إرادة فولاذية وسيطرة بعيدة. وكأنه جبل من طينة غير طينة البشرية. لا يهوى الضعف ولا الاستكانة ولا يميل إلى الاستسلام. ولعل الكاتب الدانماركي (أبسن) قد رسم شخصية نيتشه في روايته التمثيلية (الراعي براند) الذي كان رجل كل شيء ولا يقفه حائل. لا يشفق على نفسه ولا على غيره. يضحي - بدون وجل - بسعادته في سبيل تتميم إرادته؛ يمشي ولا يتسرب إليه الضعف، دامي القدم، محطم القلب. مخترقاً سبيله، بطلاً أبسل في كل ما يخترق. ولا يزال هذا دأبه حتى يريحه الجنون، وترحمه المنون) مثل نيتشه مثل هذا الراعي رجل كل شيء أو رجل لا شيء. يذهب بإرادته لا يصده صاد ولا يمنعه مانع. وقد تكون هذه البطولة - عند نيتشه - أحد عوامل سروره. كما يكون الاستشهاد عند من يقضي في سبيل وطنه. على أن هنالك (نفوساً شاذة) في هذا المجتمع، ممن يقدر لها أن تحارب التعالم وهي تلم أن في هذه الحرب شقاءها وبلاءها، تراها مضطرة بطبيعة حالها إلى أن تكون ذات قلب شديد وإرادة فولاذية، تستعين بها على اقتحام المصاعب ومثل هذه البطولة بطولة المجاهد الذي تتصلب إرادته، وتتحجر عزيمته وهو - خلال ذلك - مفتقر إلى صداقة تسعفه وتساعده، ومن عسى يتخذ صديقاً من بين هذه (المخاليق الناقصة) ولكنه اتخذ أصدقاء يقبل بكمالهم ويؤمن بمثلهم ويغضي طرفه عن نقصهم، وقد صور في مطلع حياته بعض صور أصدقائه تامة كاملة كأنها المثل الأعلى، وبهذا وجد في (شوبنهاور) أسمى مثل للفلسفة. وفي (ريشارد فاحبز) أسمى مثل للفن. وإذا هو وجد في صحبة هؤلاء راحة نفسية فإنه وجد في نهاية هذه الصحبة ألماً طالما أمضه وعذبه. ومبعث هذا الألم أن الفيلسوف ظل ساعياً دائباً وراء الإنسان الكامل الذي كان مثله الأعلى. فكان - لذلك - في نزاع مستمر مع نفسه، وقد كلفته هذه الصداقة كثيراً، لأن مثله الأعلى يقضي عليه بأن يضحي بها. فجرب كثيراً أن يغض الطرف عن نقص صديقيه، وألا ينظر فيهما إلا مثلاً أعلى الصداقة. فتذوق من الصداقة مرارتها كما تذوق حلاوتها. . . وهكذا آب إلى عزلته لأن طبيعته تدعوه إليها

(يتبع)

<<  <  ج:
ص:  >  >>