اليقين والشك فيه، والحبّ والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها. وفي أقل من هذا يخطفُ العقل، ويتدلّه من يتدله
ثم ابتليتُ مع هذا اللّمم بجنون الغيظ من ابتذالها لأصحابها وعفتها معي، فكنت أتطاير قطعاً بين السماء والأرض، وأجدُ عليها وأتنكر لها، وهي في كلُّ ذلك لا تزيدني في حالةٍ واحدة من الرهبانية؛ فكان يطير بعقلي أن أرى جسمها ناراً مشتعلة، ثم إذا أنا رمتهُ استحال ثلجاً. وقرحت الغيرة قلبي وفتّتت كبدي من عابدة الشيطان مع الجميع، الراهبة مع رجل واحد فقط. . . .!
ورجعت خواطري فيها مما يعقل وما لا يعقل؛ فكنت أرى بعضها كأنه راجع من سفرٍ طويل عن حبيب في آخر الدنيا، وبعضها كأنه خارج من دار حبيبٍ في جواري وبعضها كأنه ذاهب بيّ إلى المارستان. . .!
ورأيتنا كأننا في عالمين لا صلة بينهما ونحن معاً قلباً إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي؛ ولم أرَ لي منجاةً إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها
وذهبتُ فابتعت شعيرات من السم الوحي الذي يُعجل بالقتلِ، وأخذتها في كفي وهممتُ أن أقمحها وأبتلعها، فذكرت أُمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه الرؤيا، وأدمنتُ النظر فيها طويلاً فإذا أنا رجلٌ أخر غير الأوّل، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عبرةُ الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يؤمئذٍ أن لا علاج من هذا الحبّ إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحيّة، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتّة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بُد، فليجربه من شك فيه
وانفتح لي رأى عجيب، فجعلت أتأمل كيف آمن شيطاني ثم كفر بعد، على أن شيطانها هي كفر في الأول ثم آمن في الآخر؟ فوالله ما كنت إلا غبياً خامد الفطنة إذ لم يسخ لي الصواب حتى كدت أزهق نفسي وأخسر الدنيا والآخرة؛ فإن الشيطان - لعنه الله - إنما ردّني عن الفاحشة وهي ذنب واحد ليرميني بعدها في الذنوب كلها بالموت على الكفر!
وردّ إلى هذا الخاطرُ ما عزب من عقلي؛ ومن ابتلى بلاءٍ شديد يزلزل يقينه ثم أبصر اليقين، جاء منه شخص كأنما خلق لساعته؛ فلعنت شيطاني واستعذتُ بالله من مكره،