ونشر هوجو الرسالة بنصها المكتمل، فلم يحذف منها إلا الأسماء مراعاة لأصحابها. وإلى القارئ فقرات جوهرية من تلك الرسالة التي لا يتسع المجال لنشرها كلها. ففي هذه الفقرات ترتسم من أمبير جلوا صورته النفسية، مع خيال الغرام الواحد الذي عاش عليه إلى النهاية:
(اليوم ١١ ديسمبر، ونحن في الساعة الثالثة. لقد مشيت، وقرأت. السماء جميلة، وأنا أتألم في تفطر. وصلت باريس في ٢٧ أكتوبر، فأنا هنا أذبل وتذهب قواي بلا رجاء. عرفت ساعات وأياماً بتمامها لامس فيها يأسي الجنون. متعباً، في انقباض حسيّ وأدبي، متشنج النفس في هذه الأحياء المليئة بالوحل والدخان، كنت بلا توقف أهيم مجهولاً، وحيداً وسط جمهورٍ عظيم من الناس يجهل بعضهم بعضاً هم أيضاً)
(اتكأت ذات مساء على جدار جسر نهر (السين)؛ ألوف الأنوار تترامى إلى بعيد المدى، والنهر يجري، وكنت من الكلال بحيث لم أستطع مواصلة السير. وهناك، وقد نظر إلى بعض السابلة كأني مجنون، اشتدت على وطأة العذاب فلم أقو على البكاء. أنت في جنيف كنت أحياناً تمازحني هازئاً بشدة تأثراتي. وأنا هنا ألتهمها وحيداً، تلك التأثرات التي تنكل بي، ولا تفتأ تهتاجني بلا مهادنة. كلُّ شيء يتعاون على تمزيق نفسي: الإحساس الرحيب المتوالي الذي يشعرني بفناء زهونا وأفراحنا وأتراحنا وأفكارنا وتزعزع موقفي، ورهبة الفاقة، ومرضى العصبي، خمول اسمي، وبطلان ومساعيّ، وعزلتي حيال عدم اكتراث الآخرين وأثرتهم، ووحدة قلبي، وحاجتي إلى السماء والحقول والجبال والأفكار الفلسفية أيضاً، وفوق هذا - أجل، واهاً! فوق كلُّ هذا، الحنين الموجع إلى بلاد الجدود. يتفق لي في بعض الأوقات أن أحلم يقظان بكل ما أحببت، فأمضى متنزهاً في بلادي أُطيل التذكر بما قاسيت من الآلام في جنيف، وبنادر المسرات التي ذقتها هناك. وملامح من أصدقائي وأهلي، وطيفٌ من مكان قدّستهُ الذكرى، أو شجرة، أو صخرة، أو زاوية شارع، تتخايل لي، فتنبهني إلى الواقع صيحات سقاء باريسي. واهاً! كم أتألم عندئذ! وكثيراً ما أعود إلى حجرتي المنفردة عيّ الجسد والروح، فأجلس لأحلم أحلاماً مريرة مدلهمة في بحران وهذيان). . .) (ألا ما أتعس الذي يأسف على ما يسارع إلى لعنه عندما يجدهُ! ليس لي حتى أن أستمتع بألمي، لأن روح التحليل قائمة عندي على الدوام تشوِّه كلُّ شيء)