(. . . . . سآمة نفس ذبلت في سن الحادية والعشرين، الشكوك القاحلة، الأسف المبهم على سعادة تراءت لي في إبهام أيضاً كمجد الغروب على ذرى جبالنا، أوجاع حسية، وأوجاع إيدياليستية، الاقتناع بأن الشقاء متأصل في النفس، اليقين بأن الثروة على ما فيها من كثير خير لن تجعل السعادة تامة: هذا ما يفطِّر نفسي البائسة. واهاً! يا صديقي الوحيد، ما أتعس أولئك الذين ولدوا تعساء!)
(ومع ذلك، يخيل إليَّ أحياناً أن موسيقى تعزف في الهواء لمسمعي، وأن ألحاناً شجيةً غريبةً عن أنواء البشر تدوي من فلك إلى فلك لتنتهي إليَّ. ويخيَّل إليَّ أن ممكنات آلام جليلة هادئة تحط على أفق فكري، كأنهار قصيّ الديار في أفق الخيال. غير أن كلُّ شيءٍ يضمحل بقسوة الرجوع إلى الحياة المجسوسة، كلُّ شيء! كم مرةٍ قلت مع روسو: (يا مدينة الوحل والدخان! كم تعذَّب هنا صاحب تلك النفس الحنون! وحيداً، شريداً، منكلاً مثلى - ولكن أقلّ شقاء بستين عاماً من عصر جادّ خطير الحوادث - كان في باريس ينتحب، وأنا أنتحب. وسيأتي غيرنا ينتحبون. يا للفناء! يا للفناء!
(. . . إلى الآن لا أربح شيئاً، مع أن لي أصدقاء مخلصين يجهدون ليجدوا لي عملاً. . . . .
(يا صديقي. أعود إلى رسالتي بعد بدأتها، ثم استأنفتها. نحن في ٣١ مارس والساعة الثامنة مساءً. أكاد أجنّ من فرط الآم، ويأسي يفوق الاحتمال. تألمتُ اليوم ألماً يكاد لا يستطيع أن يتخيله بشر. ثم داهمتني الحمى في هذا المساء، وما الحمى المحسوسة سوى فضلة الحمىّ النفسية). . . (أسمع). . .
(قد اكتشفت شيئاً فيّ فعلمتُ أني لستُ شقياً بسبب هذا الأمر أو ذاك، ولكن فيَّ عذاباً مقيماً يتخذ أشكالاً عدَّة. . . أنت تعلم أني في جنيف كنتُ أتخيل أني لو نفذتُ إلى باريس كنت سعيداً. وأنا، يا صديقي، هنا أعاشرُ أكبر الأدباء. . . وأشعر أحياناُ بنشوة الظفر في الأندية والسهرات والاجتماعات. . . وما كلُّ ذلك؟. . . إن في أعماق حياتي سرطاناً آكلاً. . . منذ شهرين تجمعت قوى عذابي على نقطةٍ واحدة، أخافُ أن أذكرها لك لفرط شذوذها). . . (ذاك المصدر المركزي لآلامي هو أني لم أولد إنجليزياً. أتوسل إليك ألا تضحك، فعذابي مبرح. العاشقون حقاً مهووسون لاعتكافهم على فكرة واحدة تستغرق جميع تأثراتهم. وأنا