للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعد أن كانت نفسي زمناً طويلاً فريسة جبلةٍ منوَّعة، أنا الآن مهووس أيضاً

(هاك منشأ غرامي بإنجلترا: أنت تعلم أني أحب أن أعيش مع الموتى متعرفاً حياتهم السالفة فأقطنها معهم وأسايرهم في أحوال معيشتهم، وأن أخلق بيني وبينهم تعاطفاً ييسرهُ وهم الزمن، فلا يستطيع بعد أن يزعزعه وجود الأفراد. وأجد في إنجلترا خمسين شاعراً على الأقل، زخرت حياتهم بالمغامرات، وعمرت كتبهم بالفكر وبالخيال. أما في فرنسا فلا أجد ثلاثة. وفيما عدا ذلك، قد كنت أحب من وطني الإنجليزي حتى مزاعمهُ اللاغية. ففي مزاعم إنجلترا كثير من الشاعرية وكثير من الخيال. وبدلاً من أدب واحد، فللإنجليز آداب أربعة: الأمريكي والإنجليزي والاسكوتلاندي والايرلندي، تُكتب جميعاً بلغةٍ واحدة ولكلّ منها خصائص تميزها. فأية ثروة أدبية!. . .

(يوجد الآن ثلاثون شاعراً بين الأحياء، كلُّ منهم مستقلٌ بشخصيته لا ينتحلُ طريق غيره، وكلّ منهم خصيب. بالثروة! وبالمغامرات سافيج المسكين، وشليِّ! وأيّ عملاق هو بايرون! كم من كنز عند هؤلاء للنفس التي تحبُّ الفرار من العالم لتلقي بأصدقائها في مخدعها! وكم ذا يعني الإنجليز بكتّابهم! إنهم يطبعون مؤلفاتهم في جميع الأحجام، وأي ذوق في طباعتهم، وكم من الخيال في نقوشهم! وأنظر إلى الأمة نفسها. فذوو السحنة الخسيسة في إنجلترا نادرون ندرة ذوي الهيئة الممتازة في فرنسا! كلُّ ما في تلك الأمة شاذّ. هناك تسود الحماسة في ألف شكل. هناك إلى جانب الآراء الوضعية الأكثر صرامة، تجد الترهات الأكثر نضارة. هذا بلد يحوي المذاهب الوضعية والنظريات الإيديالستية: فرنسا وألمانيا معاً. هو وحده له من القوة ما يكفي ليفهم كلُّ شيء، ومن العظمة ما يكفي كيلا ينبذ شيئاً. وأية ذاتية! إنك لتميز الإنجليزي بين ألف شخص. أما الفرنسي فيشبه الجميع. ووفرة الشيع الدينية في إنجلترا تثبت على الأقل خلوص النية في نفوس تحتاج إلى الرجاء ولم تجففها الماديات. وشذوذ شبان الإنجليز وتهورهم ينم على نفوس يتنازعها القلق). . .

(أتألم لشعوري بأني في غير مكاني وسط شعبٍ طائش ثرثار، ملحد، ما حل، ذي زهوٍ وبرودة، في حين أن الدنيا تحوي شعباً متديناً أو متطرفاً في التشكُّك، ولكنه على الأقل لا يعيش في غير اكتراث، شعباً تجد فيه الأصدقاء الخلصاء، والنفوس المتفززة، وحيث الطيش نفسه ذو نكهة غريبة شاذة ليس له هذه اللهجة الماجنة الفاترة التي نجدوها في

<<  <  ج:
ص:  >  >>