إذ كيف يتصوّر من أئمة الإسلام الذين حرموا التصوير ابتعاداً عن الوثنية - أن يقتبسوا أحكاماً مدنية من شريعة وثنية، وهم يعتقدون أن العمل بهذه الأحكام المدنية عبادة يتقرب إلى الله بها كما يتقرب إليه بممارسة الصوم والصلاة!
خلفاء الإسلام إنما رحبوا بالفلسفة اليونانية لأن نظرياتها لا رائحة للديانة الوثنية فيها. أما الآداب اليونانية والميثولوجيا والتمثيل والإلياذة والفنون الجميلة فلم يجرؤ الخلفاء على ترجمتها إلى لغة الإسلام، وذلك لأنها مشبعة بروح الوثنية، ومتشربة بروح عقيدة تعدد الآلهة. فهل يعقل أن يجرؤ أئمة الإسلام الأتقياء الورعون على انتحال شرائع وثنية تتعلق بالحلال والحرام، ويدخلونها في فقه الإسلام، وهم يعتقدون أن كلُّ حكم شرعي لا يستمد من محمد (ص) وقرآنه وسُّنته باطل بل كفر.
كلُّ إمام من الأئمة الأربعة كلُّ يبرر نفسه رافعاً صوته أمام الجماهير من المسلمين بأن مذهبه وسنده في استنباط الأحكام إنما هو القرآن وحديث النبي (ص) الذي ثبتت صحته، وإلا فأنه يقيس الحكم على حكم آخر مستنبط من حديث يطمئن إليه قلبه
بهذه الصورة من الإخلاص والورع والتمسك بتعاليم محمد (ص) حاز الأئمة ثقة المسلمين كلهم، فوقروهم وعظموهم وقلدوا مذاهبهم ولم يعولوا على غيرها من لمذاهب
وقد بلغ الورع في هؤلاء الأئمة حداً لم يقع مثله في أمة من الأمم. حتى أن أبا حنيفة سجن وضرب ولم يتول القضاء مذ بلغه أن نبيه قال:(من تولى لقضاء فكأنما ذُبح بغير سكين)؛ وأحمد بن حنبل لم يأكل البطيخ طول عمره لأنه لم يبلغه كيف كان نبيه (ص) يأكله: أيقطعه بالسكين ويتناوله قطعة قطعة، أم يمسك الحزة بيده ثم يتناولها بأسنانه؟
أئمة هذا ورعهم وتشددهم في تقليد نبيهم في الأشياء المباحة؛ أيتصور في العقل يحيدوا عن شريعته إلى الشريعة الوثنية، شريعة الإمبراطور الروماني (يوستينانيوس) فيستندون إليها بتقرير أحكام الحلال والحرام التي هي الطريق الوحيد إلى الجنة والنار؟ وقول الأستاذ ميشيل أن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً ليس معناه ما ظن. وإنما المعنى أن هذه الأحاديث القليلة هي التي بلغت في الصحة والثبوت ما يقرب من درجة القرآن. وإلا فأن بقية الأحاديث الأخرى لها درجتها. وبحسب هذه الدرجة تستنبط منها أحكام ليست في وجوب العمل بها كوجوب العمل بأحكام الأحاديث التي ثبتت صحتها عند الإمام أبي حنيفة،