وقلت لنفسي: ما هو والله إلا القتل، فهذا عمر أراه كالأسير أقيم على النطع وسل عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه الراحم بأحسن من تعجيلها!
وبت أوامر هذه النفس في قتلها وأحدثها حديث الموت فسددت رأيي فيه، وقالت: ما تصنع بجسم كالمتعفن اصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته؟ بيد أني ذكرت كلام (الشعبي) في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهذه ما أترك منه حرفا، واتخذته متكلما مع نفسي لا كلاما، وكنت كلما غلبني الضعف رفعت به صوتي وأصغيت كما أصغى إلى إنسان يكلمني؛ فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع في رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلا ثانيا قويا فهرب!
قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدت له السكينة في قلبي فنمت، فإذا الفزع الأكبر الذي لا ينساه من سمع به فكيف الذي رآه بعينيه؟
رأيتني ميتا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه خرقة؛ ثم حملت على النعش، كأن الحاملين قد دفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس؛ ثم صلى عليّ الإمام الشعبي في مسجد الكوفة؛ ثم دليت في قعر مظلمة وهيل التراب عليّ، وتركت وحيدا وانصرفوا!
وما أدري كم بقيت على ذلك؛ ثم رأيت كأنما نفخ في الصور وبعثرت الأموات جميعا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غباراً حولنا كتراب العاصفة في العاصفة؛ وإذا نحن في عرصات القيامة وفي هول الموقف!
وتوجهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله؛ ورأيت أعمالي رؤية احزنتني، فهي كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في الساعة بعد الساعة، ندروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة!
وذكرت أني كدت اقتل نفسي فرارا بها من العمر المؤلم، فنظرت، فإذا الزمن قد ظهر في أبديته، ورجع الماضي حاضرا بكل ما حوى كأنه لم يمض، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من دهر طويل، فحمدت الله أني لم أفتد ألم اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد الخالد.
وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح: