هذا أنعم من كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها. ثم غمس هذا المنعم في النار غمسة خفيفة كنبضة البرق، واخرج إلى المحشر، وقيل له الناس جميعا يسمعون: هل ذقت نعيما قط؟ قال: لا والله
ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسا منذ خلقت الأرض، فغم في الجنة غمسة أسرع من النسيم تحرك ومر، ثم أخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسا قط؟ قال: لا والله.
وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ؛ فأيقنت أن لها نفسا خلقت من غضب الله. وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرمت السماء كلها نارا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفاً صنفا من الخلق؛ وبدأ بالملوك الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد؛ وقذف بهم إلى النار؛ ثم انبعث فالتقط الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها؛ ثم جعل يأخذ قوماً قوما وقد ألجمني العرق من الفزع؛ ثم طرت أنا فيه ونظرت فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلوا أنفسهم. ولو أن بحار الأرض جعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها فيكون العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تسجر نارا تلظى لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها، وكنت سمعت من إمامنا الشعبي أن عصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه، فسمع قائلا من بعيد يقول لمؤمن: أخرج فإن إيمانك ينتظرك. فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا ينتظرني إيماني؟ فقيل له: وهل جئت به؟
ورأيت رجلا ذبح نفسه يريد أن يصرخ يسأل الله الرحمة، فلا يخرج الصوت من حلقه، إذ كان قد فراه وبقى مفريا! وأبصرت آخر قد طعن في قلبه بمدية، فهو هناك تسلخ الزبانية قلبه تبحث هل فيه نية صالحة، فلا تزال تسلخ ولا تزال تبحث!
ورأيت آخر كان تحسّى من السم فمات ظمآن يتلظى جوفه، فلا تزال تنشأ له في النار سحابة روية تبرق بالماء، فإذا دنت منه ورجاها انفجرت عليه بالصواعق ثم عادت تنشأ وتنفجر!
وقال رجل إنما كنت مجنونا ضعيفا عاجزا فأزهقت نفسي فنودي: أو ما علمت أن الله يحاسبك على أنك عاقل لا مجنون وقوي لا ضعيف، وقادر لا عاجز؟ كنت تعقل بالأقل أنك