والشياطين والقوى الخفية المتصرفة في هذا العالم؛ وإذا بحثنا عن منشأ كثير من عاداتنا الاجتماعية وجدناها ترجع إلى أصل خرافي: فتفضيل اليد اليمنى على اليد اليسرى يفسر في غالب الظن مبدأ من مبادئ السحر والشعوذة؛ والعطلة الأسبوعية التي ننعم بها الآن لم تكن إلا لأن الإنسان اعتقد أن هناك أوقات نحس وأوقات سعادة وفوق هذا وذاك فالخرافة تغذي ناحية نفسية لا يصح تجاهلها، ذلك لأن الإنسان لا يلبي داعية العقل والمنطق فقط، بل هو خاضع لخياله وعواطفه. وللخيالة ميادين تسبح فيها، وعالم يتفق مع ميولها وأهوائها؛ وما الخرافة إلا مظهر من مظاهر هذا العالم وأثر من آثار هذا الصنع، وحياة لا تعتمد إلا على الأسس الطبيعية والبراهين العقلية - كما ينادي بها أصحاب الرواق - جافة قطعا ولا وجود لها إلا في أدمغة زينون وكريزيب.
ليس هناك شك في أن الإنسان مستعد بطبعه لقبول الخرافة؛ فهو ميال دائما لأن يعرف أكثر مما يرشده إليه بصره وعقله، ولأن يخلق بجانب الحقائق الحسية والفكرية صورا أخرى تحقق رغبة من رغباته، أو تسد ناحية من نواحي نقصه. هذا إلى أنه في ضعفه يحاول أن يعتز بقوى خفية - وإن تكن خيالية - في التغلب على مشاق الحياة. ومن هنا كان التعلق بالخرافات عالميا، وكان قدر منها مشتركا لدى عامة الشعوب. فالسحر والتنجيم والشعوذة من خرافات الإنسانية بأسرها، قام عليها معظم تقاليد الأمم المتوحشة، وتشبث بها الناس بعد أن خطوا خطوات فسيحة في سبيل العلم والمدنية، ولا يزالون خاضعين لشيء من سلطانها إلى اليوم. وحديث القصور الزبرجدية والآرائك المسجدية التي بناها المردة والشياطين في أرض نائية وجزر منقطعة، بهر الإنسان الهمجي وشغل عقول بعض أبناء القرن العشرين. والتفاؤل والتشاؤم والطيرة كانت من خرافات الإغريق والرومان والعرب، وحتى الساعة يقول عاميتنا:(خذوا فألكم من قبالكم)، وإذا سمعوا نعيق غراب رددوا الجملة المشهورة:(اللهم اجعله خيرا). وبديهي إن انتشار الخرافة يختلف من بلد لآخر تبعا لدرجة الثقافة، ونمو التربية الدينية، وطرق الحكم السياسية من ديمقراطية واستبدادية، ولظروف اجتماعية أخرى متعددة. ويحاول بعض الباحثين أن يعقد موازنات بين الأمم في هذا المضمار، فيزعم مثلا أن المشاهد السينمائية في إنجلترا وفرنسا تؤذن بأن الشعب الإنجليزي إلى الغريب أميل، وفي الخرافة أرغب. وهذه الموازنات وإن تكن مثار شك