جذوعها وجعل ينظر إلى أضواء الشموع، ثم إلى هذه الصور التي قبست شحوبها من نفوس عمرت بالألم والتقى والورع، فإذا صدف عن العمد المرمرية ونازعته نفسه إلى الطواف بالأماكن المقدسة، انبسط أمامه فضاء الكنيسة واتسع، وخيل إليه أن الحوائط والجدر تفر منه وتنأى عنه، فما يستطيع لحاقا بها، ولا تستطيع أن تسايره في منازعه فتسكن وتستريح؛ وكان في بعض الأحايين لا يجد معدى من الوقوف أمام هذه الصور الملونة رجاة أن يتعرف إلى أصحابها، فيفتح عينيه ويمد يده إلى مذبح صغير ازينت أطرافه وجنباته بالذهب، ويأتي إلى الصور ويقرأ أسماء الرسل على الضوء، ثم لا تعجبه هذه الأسماء فيرتد عنها في مثل خفة الوميض، ويطرح الشمعة إلى حضيض البيعة، فيخبو نورها، ثم لا يغمه ويحزنه أن يستأنف طوافه في ليلين راعبين: ليل نفسه، وهذا الليل الذي يغشى المعبد!
وربما كان من أحب أمانيه ألا يقول شيئا لأصحاب التصاوير، وقد يكون من أرضى هذه الأماني أن يلقي بدخيلة نفسه إلى المسيح وحده، وذريعته في الحرص على صمته حتى يخلو إلى صورة السيد المسيح أنه ناضل ونافح في سبيله، فأولى للنبي الذي نصره على الوثنية وبارك سلاحه في سوق الوغى أن يفزع إلى الرسول العبقري، وإنما يضيره أن يقص حياته على صور مكان أصحابه من طرازه وعنصره!
ولقد وقف (هراقليوس) بعد إفلاته من القبر المقدس بجوار صخرة قيل إن ملكا من السماء وقف عليها ليتحدث إلى العذراء مريم، فتهافت عليها وتمسح بها، ثم دخل إلى بيعة صغيرة أسماها نصارى القرون العافية (معبد الملائكة)، ثم لم يلبث أن ازور عنها وجاء إلى بيعة محاذية في رحبتها قطعة كبيرة من المرمر الرمادي قيل إن السيد المسيح صعد عليها وتراءى لمريم المجدلية، وعليه لباس جنان يحمل الورد، وكانت البيعة الصغيرة تسبح في ظلام شديد، فثنته الجهمة الراعبة عن شعور الرجل التقي، فجثم مصليا على المرمر وحدق إلى سماء المحراب كأنه يريد أن يتعرف المكان الذي خرج المسيح منه بعد دفنه، ولم يطل مكثه في المحراب، فعافه وغشى المعبد الذي ظهر فيه السيد للعذراء بعد بعثه، فطاف بودائعه طوفة الحاج المنيب، وكانت المصابيح المذهبة الملونة تضيء جوانب المعبد، فرأى هراقليوس على وميضها صورة تمثل المسيح ووالدته، فرق للصورة وابتسم، ولكن