ذلك العزاء الذي تمناه لم يخالط نفسه، فجمع ذيول ردائه وخرج من المعبد ليدأب في طوافه، فاستقبلته العمد المرمرية الرفيعة، كأنها خيالات الموتى، فأخافه ما عليها من سعف النخيل وورق الغار، وأنمى مخاوفه احتراق البخور في كل ناحية من نواحي البيعة الكبرى، وإطلال الصور على الحوائط والجدر، وكان يخيل إليه أن حجه قد انتهى، فينبغي له وقد بلغ غايته من زيارة الأماكن الطاهرة أن ينقلب إلى أحراسه الذين أبوا مفارقة أبواب الكنيسة قبل فراغه من حجه، فلما هم أن يخرج لم يستطع أن يتعرف الأبواب، فقد امتد صحن الكنيسة وفاح حتى مائل الحرجة الغبياء، فألقى بنفسه إلى تيه راعب، وبلغ به المطاف محراب القديسة (هيلانة) المائل إلى يساره، فشخص إليه وقرأ اسم هيلانة منقوشا على المرمر بحروف إغريقية، وهو لا يجهل أمر هذه المرأة التي لبست التاج في كنيسة الرسل، وابتعثها شغفها العنيف بقصة حياة المسيح على فراق القصر، فجاءت إلى بيت المقدس لتبحث عن خشبة الصليب، فلما عثرت عليها بالغت في تكريمها، ثم رفعت هذه الكنيسة تخليدا لذكريات تلك الحياة الماجدة!
لألأ الفرح على جبين هراقيلوس فتشاجى ورق، وجعل يستعرض تاريخ تلك المرأة التقية التي أزجاها الورع الشديد العنيف إلى الإيغال في منافحة الوثنية، فأكبر حياتها. ثم فاضل بين هذه الحياة وحياته، فراقه تساوق عجيب في الحياتين، ولذه أن تبدأ المرأة العاقلة أمرها في البحث عن الصليب حتى حصلت عليه، وأن يبدأ هراقيلوس أمره في إرجاع الصليب إلى مكانه الأصيل بعد انتصاره على جيوش ملك الملوك كسرى!
وكانت هذه المفاضلة التي ذهب إليها ساعة وقف إلى جانب المحراب مثارا لذكريات نبيلة في نفسه، فاطمأن البطل المقارع إلى خاتمة حياته، ووثق بقدرته على اجتناء النصر حتى يغيب في رمسه! وما عاد يخيفه هذا البغض الذي يشعر به الناس في الشام وفلسطين ومصر، بل عاد هراقيلوس يخاف أمر هذه الصحراء التي أخرجت الأبطال والمساعير إلى مشارف الشام للثأر بدم الرسول الذي قتله أمير من غسان! ومن أين لهذه الصحراء الغارقة في الرمال، والتي لا يسمع لها نشيد في البلاد الوارفة الظل، حظ هراقيلوس اللامع وجده الساطع؟ وهذا الملك الطويل العريض الذي استعبد الشعوب وأذل الملوك؟ بل من أين لهذه الصحراء الغطشاء السادرة في حر الهاجرة، هذه الأنهار الجارية، وهذه البحار الطاغية،