قد تغري الحماسة فرسان الصحراء بالوثوب على القرى والمسالح، ولكن دون وصول هؤلاء الفرسان إلى المدن الضاحكة على ضفاف الأنهر وشواطئ البحار، حمية هؤلاء الملوك الذين مشوا في ركاب قيصر لقتال كسرى في مدائنه! وبسالة الجيش الذي ظفر بأسلاب العدو في جبال الألب وفي سهول مقدونيا، وعلى شواطئ البحر اليوناني!
وماذا يستطيع (فروة بن عمرو) الذي ثار على سيده ومولاه أن يفعل، وفي جيش هراقيلوس قواد ما تزال صدورهم تخفق بتلك الأناشيد التي سمعها العراق وسمعتها فارس، ولا يزال صليلها الراعب يرعد في سمع هذه الدنيا التي لا يرتفع لها علم بجوار علم قيصر!.
لقد همس هراقيلوس باسم فروة، وهو منحدر إلى الهاوية العميقة التي نقرت على جلامدها كنيسة القديسة هيلانة، همس الساخر العابث، ولما جاز السلاليم إلى ذلك المنحدر الأوهد رفع يده إلى الفضاء كأنه يتوعد الفيلارك فروة بن عمرو الجذامي، ثم تضاحك، حتى لقد رن ضحكه في جوف الهاوية وأردف صائحا:(ما أنا بحاجة إلى قتالك أيها الفتى الذي ابتعثته أماني الشباب على الزراية بسيد الجيوش وأمير الجحافل! فمثلك لا يقاتله رجل إلا من طرازه ونوعه، وقد وفقت في العثور على الرجل فاليكه، فأنه الحارث الغساني أمير دمشق وسيأتيك من حيث لم تحذر، ويقاتلك من مأمنك).
جاز قيصر السلاليم في رفق وهوادة، فاستقبلته الظلمة الفاحمة، وارتمت على جبينه الرطوبة، وسرت إلى نفسه عفونة ما كان يستطيع عليها صبرا، ومع هذا كله مضى هراقيلوس لما شاء، ودأب في انحداره حتى انتهى إلى الهاوية، فإذا عليها سحب من ليل صارد، وإذا الرطوبة التي استقبلته على وصيد الباب تستقبله عند كل خطوة، وإذا هو لا يبصر غير بريق الفسيفساء على الحياط والجدر والحنايا، فانكمش وتقاصر وردت إليه هواجسه، وثابت إلى قلبه وساوسه، وامتلأ رأسه بالتهاويل والتصاوير، فاطرح عبقرية الرجل الأريب، وأخذته جنة الرجل السروب، وفكر في الرجوع على عقبيه فما جرؤ على رجعة وشيكة، فقد سالت نفسه على الحياط والجدر، وأنمى مخاوفه بصيص من ضياء يتسرب إلى حضيض البيعة من ثقوب في قبتها السامقة، وقد تسايل على الجدر والحياط