فضوءها، فنظر هراقيلوس إليها فإذا عليها تصاوير غاتمة شاحبة تمثل أشخاصا ذوي وجوه كامدة، وقد قعد هؤلاء القرفصاء، وحسروا عن صدورهم فإذا هي قد أكلتها القروح وأثخنتها الجروح، فسال صديدها على أطمار بالية عافية، وبين هؤلاء المناكيد المشائيم فقراء متسولون يغشى وجوههم الناصلة أثر غير يسير من بؤس ويأس، ومن حولهم فتى رائع الجمال، ضاحك الأسارير قد سدر شعوره الشقر على منكبيه حتى ماثل المسيح في ملامحه البارعة؛ ولكنه ضرير لا يبصر ما حوله!
خيل إلى هراقيلوس وهو ينظر إلى هذه التهاويل أنه في مكان يسوده العذاب، فتلطفت نفسه ورجفت أسنانه ووضع يده على عينيه كأنما هو يحاول ألا يرى إلى هذه الأشياء الجاهمة، ثم فكر في الرجوع إلى المعبد، ليلحق برجاله الذين ينتظرون معاده على الأبواب فما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلقد أمالته مخاوفه إلى الإيغال في الطواف فمشى بين صفين متقابلين من أشباح وصور ثم لم يعد في ميسوره أن يدأب في طوافه، فوقف تحت قنطرة المعبد وجعل يستمع لفحام مؤلم ينبعث من صدره.
ليس بين هذه المحاريب التي غصت بها أنحاء كنيسة القبر المقدس ما يماثل محراب القديسة هيلانة في ظلمته وروعته، وفي ذكرياته الحافزة المثيرة، فلقد يستطيع الإنسان أن يمر بالمعابد جميعا وينسل إلى الأروقة جميعا، ويتجسس العمد والتصاوير جميعا فلا يحس خوفا، فإذا ألقت به حظوظه العاثرة إلى معبد القديسة هيلانة بدت له نواحيه وأطرافه صامتة ذاهلة، فإذا تدفق في سيره ألفاه خياليا عاطلا إلا من هذه الأشباح والأطياف الجاثمة على سلاله ودرجاته وعند مداخله، وإلا من هذه التصاوير التي لا تفارق جدره وحياطه، فإذا طاف بهياكله ومنابره لم تتبدل في عينيه هذه الصور التي أبصرها على عمده وحناياه وأقواسه، ثم لا يلبث أن يفر من هذا المكان الراعب الذي يماثل في تهاويله وتصاويره معابد الوثنية.
لم يجد هراقيلوس معدى عن الصلاة فخافت بصوته لعل صلاته تنسيه هذا الضجر الأحمق الذي علق بنفسه، أو لعل هذه الصلاة التي همس بها في الراموس الراعب ترجع به إلى حزمه ومضائه فينقلب على أحلامه وهواجسه، ويجفو هذه العزلة الجاهدة، ويفيء إلى سريه صحيح العقل موفور الذكاء، ولكن الرجل الذي أوفى لنصرانيته وبر بمسيحه ما كان