للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يجد في هذه الصلاة التي رددها أمام التصاوير، ذلك الصفاء الذي كان يشتاقه، وذلك لأن ماضيه مثل له في الراموس النابي، فزحمته طيوفه وأشباحه، وخرجت على فمه أسماء معاركه وملاحمه، وانفلتت من صدره ذكريات مخازيه ومساويه، فوازن بين انتصاره على الوثنية وبين إيغاله في تنكيد أبناء الشيع النصرانية، فرجحت كفة رذائله على كفة فضائله، فتشاجى ورق وهام على وجهه في فضاء المعبد حتى بلغ هيكله المرمري، فوقف خياله كأنما هو يريد أن يعترف بذنبه، أو كأنما هو ينزع إلى إلقاء جرائمه في هذا المكان المخوف، فذكر أمام الهيكل اسم: (مارتينا) زوجه، وقد نهاه البطريرك (سرجيوس) عن مخالطتها، فأبى ذلك مسايرة لميول قلبه، ثم تزوجها وألبسها لباس القياصرة ومشى بها إلى كنيسة أيا صوفيا من غير أن يفطن إلى عظيم ذنبه عند ربه.

وكان كلما طافت به هذه الذكر الشجية لا يمنع عينيه البكاء حتى لقد استفاض أنينه في أنحاء المعبد، فاستمعت لها التصاوير ووعتها السدفة، ثم غشيته ذهلة قاتلة، فجعل يهذي هذيانا بليغا، وانكفأ يخلط ماضيه بحاضره، وقذف فمه أسماء ضحاياه، وبين هذه الأسماء التي لا تحصى اسم فتاة وطئ قيصر عفافها في ليلة عاصفة بالبروق والرعود، وأرادها على فراق وطنها فخرجت منه إلى ربوع الشام وفي نفسها المحطمة من الذكر الراعبة ما ليس في كتاب.

وكان هذا الخوف الذي تولاه ساعة نظر إلى صورة الأعمى مبعث حيرته ومصدر وساوسه، فسأل نفسه عن هذا الجزع الذي غشيها وهو الزعيم الكمي الذي جاز بفرسانه شواهق إنطاكية وسهولها ليلحق بجيوش (كسرى) عند (تدمر) فتنة الصحارى، فلما فرت جيوش كسرى أمام كتائبه ثارت حميته واستأنف زحفه في أرض محصبة واعرة، حتى لقى كسرى عند دجلة فنهد إلى مقارعته وحمله عار الانكسار، ولحق به إلى المدائن وأقسره على إرجاع الصليب الذي حمله ملك الملوك من بيت المقدس.

وليس هذا كل ما فكر فيه، بل لقد ذهب في تفكيره إلى أبعد مدى، فتمثل دخوله إلى هياكل الوثنية في موكب ضاحك ينس تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد (جوبيتير) و (منرفا) فوازن بينها وبين هذا الفتور الذي استقبلته به معابد النصرانية! وعيناه لا تزالان تنظران إلى صورة الفتى الأشقر الذي لا يبصر!

<<  <  ج:
ص:  >  >>