الرحيل عنها. . . لقد تعبنا جداً هنا واضطررنا إلى ما لم يكن لنا في حساب. ومن لطف الله بنا أن هذه البلاد قليلة المطر، ومع ذلك كنا إذا أمطرت ينفذ إلينا الماء من سوء حال القبور، وتبتل أكفاننا فنضطر إلى الخروج وننشرها بين أيدينا أو على هذا السور حتى تجف وتعود صالحة للبس. وعلى ذكر ذلك أقول إني لا أدري ماذا جرى للدنيا؟ لقد كانت حفيدة لي مدفونة هنا، وكان عليها كفن من الحرير الغالي، فسرقه لص! تصور هذا؟ ولا أعلم هل سرقه واحد من الأحياء، أو تغفلتها ميتة أخرى وسرقته؟ فإن كان السارق من الموتى فلابد أن يكون من جيراننا فما في أسرتنا هذا السوء. وقد شكت إلي ما صارت إليه من العري، فلم أدر أول الأمر ماذا أصنع؟ وكيف أكسوها؟ وخطر لي أن أنتظر حتى يجيئنا ميت جديد، أو يموت ابنها فآخذ من كفنه لها، فإن الميت الجديد يلف في أكثر مما يحتاج إليه، ولكنه لم يمت مع الأسف، فلم أجد حيلة إلا أن أجعلها دقة بدقة، والبادئ أظلم، فذهبت أرتاد هذه الجبانة حتى رأيت كفناً من الحرير لا أشك في أنه الكفن المسروق، فجئتها بشق منه وتركت شقاً)
وضحك - أعني أنه أخرج صوتاً سألته عنه لأني حسبته كلاماً فقال إنه كان يضحك، فسرت في بدني رعدة، واستأذنته في الانصراف
فقال:(ألا تعينني؟ إن الحجر ثقيل، وأنا هرم، وقد فتر نشاطي من طول الرقاد)
فتناولت الحجر من ناحية، وتناوله من طرفه الآخر، ووضعناه معاً على ظهره، وذهب يخطو، وكانت عظامه تقرقع وهو يمشي، فلما بلغ الباب سألته:
(ألم يبق هنا أحد منكم؟)
قال:(لا. . . ماذا نصنع هنا؟ كلا ليبن فوقها الأحياء إذا شاءوا)
قلت:(وأين ذهبتم، فقد نحب أن نزوركم)
قال:(أين ذهبنا؟ وأين تنتظر أن نذهب؟ انتشرنا في فضاء الله، فإن أرضه ما زالت واسعة، ولن نعدم فيها منأى عن مساكن الأحياء. . . وعلى ذكر ذلك أسألك: ألستم تموتون في هذه الأيام؟)
قلت:(يا له من سؤال؟ كيف لا نموت؟)
قال: لماذا إذن هذا الزحف علينا كأن الدنيا تضيق بكم وكأنكم تزيدون ولا تنقصون؟ لماذا