كان معبد القديسة هيلانة غارقاً في الصمت، فليس في نواحيه أثر من صلاة، ولا تنير محارمه ومناسكه هذه الشموع الكثيرة التي تنير أروقة كنيسة القبر المقدس؛ وقد جفاه المرتلون والعازفون، فما يسمع هراقليوس في عزلته صوتاً يحرك في نفسه شعور التقي والورع، بل ليس في هذا الرمس الذي انحدر إليه، قسيس يطمئن إلى لباسه أو يستريح إلى إرشاده ونصحه، ولو كان هنالك تقي لخف إليه وسأله أن يترع نفسه بالعزاء الذي يحبه ويشتاقه
ثم عاف هراقليوس الهيكل وأقبل على الجدر يتجسسها ويتفحصها ويستند إليها، وهو يحاول الخروج من المعبد؛ وأنه ليمشي في لين ورفق حذر السقوط إذ صافحت عيناه نزلة أخرى صورة ذلك الأعمى، فوقف ينظر إليها على ذلك النور الضعيف الذي يرسله القمر من صدوع في القبة الفيحاء، فلما حدق إليه ارتد به الخاطر في خفة الوميض إلى الحياة (موريس) التعس الذي سوغ الظالم (فوكاس) قتله مع بنيه في ليلة من ليالي الخريف الحافزة. وقد كان (موريس) قيصر الرومان وسيد هذه الدنيا طولا وعرضا، فألب (فوكاس) عليه الغوغاء وهاجمه وهو نائم في قصره، ففر إلى جزيرة (انتيغون) على الساحل الهادئ في بحر (مرارا) ولحق به بنوه وصحبه، فما تريث الطاغية (فوكاس) في اللحاق به حتى أدركه وقتله شر قتلة بعد أن غمس يده في دماء بنيه الخمسة، ولم يفلت من هذا الموت الكريه غير فتى صغير اسمه (كريستيا)، وغير فتاة صغيرة اسمها:(سافو) ومعهما تلك الإمبراطورة التعسة (تيوفانو)، ثم ثار الشعب على (فوكاس) الذي لبس التاج، وكان (هراقليوس) زعيم هذه الثورة وبطلها، وكان شعاره وشعار الثائرين الذين صحبوه إلى قصر الطاغية اسم الصغير:(كريستيا)، وكان ينبغي لهراقليوس بعد ظفره بالقاتل السفاح أن يضع على رأس الفتى تاج أبيه. فما فعل إرضاءً لمطامعه ونزواته، ثم كان من أمر (كريستيا) أن توارى عن الناس خشية أن يفتك به أنصار هرقليوس، وطويت الأحاديث عنه وما عاد رفاق أبيه يذكرون من أمره وأمر أخته وأمه شيئاً!
لقد كانت خيالة الفتى الأعمى في الصورة المائلة تشبه خيالة كريستيا، فهتف هرقليوس